قبل الحرب الأهلية، العام ١٩٧٥، كان الحراك المطلبي أمراً معتاداً في لبنان، فالقوى النقابية العمالية والطلابية ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية القومية والوطنية كانت ناشطة تمارس كل أشكال التعبير المطلبي من مظاهرات واعتصامات وغيرها. بعد انتهاء هذه الحرب وخلال فترة الوصاية السورية لم يعد اللبنانيون يعرفون المظاهرات، ما خلا تلك التي ينظمها مستزلمون انتهازيون تحركهم مخابرات نظام الوصاية، في وقت كانت أكبر مظاهرة للاتحاد العمالي العام لا تضم سوى عشرات قليلة من المتظاهرين. وفي العام 2005 تسبب اغتيال الرئيس الحريري بمظاهرتين مليونيتين: الأولى في 8 مارس/آذار نظمها حزب الله فرفعت صور بشار الأسد وشكرت سوريا وامتدحت فضائلها، والثانية في ١٤مارس/آذار نظمها المناوئون لسوريا والمطالبون برحيلها ومحاكمة قتلة الحريري. ثورة الأرز كما لقبها الأمريكيون لم ترفع مطالب اجتماعية أو حياتية، كذا مظاهرة ٨ آذار التي اقتصرت على دعم الحليف السوري. المظاهرتان العملاقتان كانتا مجرد انعكاس لحالة الاستقطاب الحاد بين اللبنانيين حيال الموقف من الوصاية السورية. بعدها عاد التظاهر والاعتصام ولكن على خلفية طائفية محلية أو إقليمية مرتبطة بالموقف من سوريا، قبل أن يزحف الربيع العربي من تونس إلى مصر مروراً بليبيا ثم سوريا التي انفجرت هي الأخرى وما تزال شظايا هذا الانفجار تهدد الاستقرار الهش في لبنان. وفي خلال العام ٢٠١١ قامت بعض المظاهرات للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي، لكن بعض أحزاب السلطة اللبنانية نجحت في اختراق هذا الحراك ومنعه من التنامي والتحول إلى ظاهرة شعبية. لذلك يمكن القول بأن الحراك المدني الحالي في لبنان هو الأول من نوعه منذ ثلث قرن تقريباً، الأول من حيث كونه عابراً للاصطفافات المذهبية والحزبية والمناطقية. وقد بدأ بمظاهرة قادتها، في نهاية يوليو/تموز الماضي، حركة غير معروفة اسمها طلعت ريحتكم تنديداً بطريقة معالجة الحكومة لمشكلة تراكم النفايات في الشوارع. لم تضم المظاهرة سوى حفنة صغيرة من الشباب، لكن كرة ثلج راحت تكبر ومعها أخذت تنشأ في كل يوم حركة جديدة مثل طفح الكيل أو بدنا نحاسب أو لاقونا إلى الشارع إلخ... لتنجح مظاهرات ٢٢ و٢٩ أغسطس/آب الماضي ثم ٩ سبتمبر/أيلول في حشد عشرات الآلاف من المتظاهرين والذين برهنوا عن وعي برفضهم محاولات السياسيين الاستثمار في الحراك. فقد تبارى أمراء الطوائف في دعم الحراك بتصريحات أجمعت على أن المطالب محقة، وكان رد المتظاهرين واحداً: طلعت ريحتكم كلكم كلكم كلكم، من دون استثناء. نجاح الحركة الشعبية في ملف النفايات يفتح أمامها الطريق للانتقال إلى ملفات الكهرباء والمياه وغيرها من الشؤون الحياتية التي أخفقت السلطة السياسية في معالجتها بسبب فسادها وعجزها وأجنداتها الخارجية. لكن من الصعب تصور نجاح الحركة في إسقاط أو حتى تغيير النظام الطائفي اللبناني. هذا النظام بيّن عن قدرة مذهلة على إعادة إنتاج نفسه مع الطبقة السياسية نفسها التي خرجت من خلف متاريس الحرب الأهلية للتربع على قمة نظام تنعته هي نفسها بالفاسد والمهترئ. مئات الآلاف من ضحايا وشهداء حرب أهلية طالت عقداً ونصف عجزت عن تغيير النظام الذي خرج أقوى وأكثر طائفية ومذهبية مما كان عليه. التخلص من النفايات السياسية، على حد تعبير رئيس الحكومة تمام سلام، عبر إسقاط النظام الطائفي واستبداله بنظام ديمقراطي حقيقي، مطلب ضروري ومحق. لكن في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها لبنان والمنطقة فقد تعمل مثل هذه المطالبة كمفجر لصاعق حرب أهلية ما تزال ترفضها القوى الإقليمية والدولية الكبرى. والبيان الأخير الذي صدر عن مجلس الأمن أراد التأكيد على أهمية الاستقرار اللبناني، وكأنه يتوجه إلى اللبنانيين بالقول إنه إذا كان بلدكم لا يهمكم فإنه مهم للمجتمع الدولي واستقراره. من اللافت أن الطبقة السياسية تتفرج على الحراك الشعبي من دون أن تحركها مسؤولياتها أو ضمائرها لإنقاذ البلد الذي تحدق به كل أنواع المخاطر الداخلية والخارجية. ما يزال أمراء الطوائف يبحثون عن المحاصصة واقتسام الغنائم رغم كل ما يجري. لا كهرباء ولا ماء في بلد الينابيع والأنهار، ولا رئيس للجمهورية منذ عامين تقريباً، ولا تشريع حتى للضرورة، ولا انتخابات لبرلمان جدد لنفسه مرتين.. إلخ. لم يكن ملف النفايات سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. للأسف يبدو النظام الطائفي منيعاً للغاية وعصياً على التغيير، وتبدو الدولة في لبنان غاية في الهشاشة وجاهزة للانهيار. وهكذا فإما استمرار الوضع الحالي وإما الانفجار على الطريقة السورية. هذه المعادلة يستخدمها السياسيون الذين يحاربون الحراك بالتشكيك بدوافعه ومصادر تمويله وارتباطاته والترويج لنظرية المؤامرة. منذ الاستقلال في العام 1943 لم يكن تغيير النظام والحكومات والرؤساء في لبنان شأناً داخلياً بقدر ما كان نتيجة لتوافقات خارجية. هذا واقع فرضه الجيوبوليتيك ولا يستطيع الداخل المنخور بالطائفية أن يغيره. فما يزال كل واحد من زعماء الطوائف قادراً، بالصفارة المذهبية، على حشد جموع غفيرة غفورة، من المؤيدين والمستزلمين والشبيحة، تربو على ما حشدته جمعيات المجتمع المدني. وإذا ما أحس هؤلاء الزعماء بخطر حقيقي على مصالحهم وامتيازاتهم فإنهم قادرون على تجاوز خلافاتهم ووضع الحركة الشعبية أمام معادلة إما الفوضى أو الوضع القائم . وهم يمتهنون الاستثمار في الفوضى تماماً كما يستفيدون من الوضع القائم، والشعب وحده من يدفع الثمن الغالي في الحالتين.
مشاركة :