العقل العربي حين يُعتقل في وهم (مابعد الحداثة) - يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل

  • 9/16/2015
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

تطالعنا بين الفينة والأخرى أحاديث، سواء على شكل مقالة، أو مدبجة في كتاب، أو في ورقة ستقدم لمؤتمر ثقافي، عن مصطلح (ما بعد الحداثة). وتتقصد تلك الأحاديث، غالباً، بحث مسألة (مابعد الحداثة)، وكأنها شأن عربي إسلامي. والمشكلة هنا تنبع من مضمون الرسالة التي ستشيع بين المتلقين، والتي ستوحي غالباً بأن العرب والمسلمين عموماً، عايشوا (الحداثة) بكل تفاصيلها، وهم الآن يدلفون إلى عصر (ما بعد الحداثة). مصطلح (ما بعد الحداثة)، هو مصطلح غربي بامتياز، شأنه شأن كثير من المصطلحات والمفاهيم والأفكار، التي نستهلكها دون وعي منا بمضامينها، وما ترمي إليه في بيئتها الاجتماعية مصطلح (ما بعد الحداثة)، هو مصطلح غربي بامتياز، شأنه شأن كثير من المصطلحات والمفاهيم والأفكار، التي نستهلكها دون وعي منا بمضامينها، وما ترمي إليه في بيئتها الاجتماعية. لقد دُشِّنت فلسفة (ما بعد الحداثة) في الغرب بقصد محاولة إصلاح انحرافات الحداثة الغربية، على المستويين الفكري والعملي. وهذه الانحرافات لم تُرصد وتُعين، ومن ثم تُنقد، إلا بعد أن مر الغرب بالحداثة نفسها، فعايش فجورها وتقواها، وإيجابياتها وسلبياتها، وعقلانيتها ولا عقلانيتها. وباختصار: ينصرف نقد (ما بعد الحداثة)، إلى ما أحدثته تجربة الحداثة الغربية من الانفصام بين القيم الإنسانية من جهة، وبين المعرفة والعلم من جهة أخرى. وهو انفصام أدى، كما ترى مدرسة فرانكفورت، إلى تحول العلم والعقل إلى أدوات طيعة بيد الحكومات الأوروبية، تستخدمها في كل الأغراض، بما فيها الأغراض الشريرة والتدميرية. وقد نتذكر في هذا الصدد، فلاسفة ورواد مدرسة فرانكفورت، الألمان وغير الألمان، كما نتذكر (نيتشه وهايدغر وفوكو وليوتار وهابرماس وهوركهايمر وأدورنو)، وغيرهم ممن نقدوا الحداثة ومخرجاتها، على اختلاف مواقعهم ومضمون وحدة نقدهم. مع ذلك، فثمة أمر مشترك بين فلاسفة ما بعد الحداثة الغربية، وهي أنهم مجمعون على أنه لا بديل عن عقل الأنوار، وعن التلازم الضروري بين العقل والعقلانية والعقلنة من جهة، والتقدم المطرد، وتحرير الإنسان، واسترداد فرديته، بل وإنسانيته من جهة أخرى. إن فلاسفة ما بعد الحداثة، إذ ينتقدون الحداثة، فإنهم لا يبتغون بالحداثة وعقل الأنوار بديلا، لكنهم ينتقدون ما يسمونها انحرافات عقل الأنوار، بتحوله إلى عقل أداتي منفعي رأس مالي برغماتي، عقل يسمح باستعباد الشعوب الأخرى وغزوها واستغلال مواردها باسم الحداثة. وهو الذي نشأ في الأساس كضد لعقل القرون الوسطى، عقل الخرافة والسحر واللاعقلانية، واضطهاد الإنسان وتسخيره لمصالح القساوسة والرهبان والباباوات، وسرقة حياته باسم الرب. وهذا بالضبط موضع نقد فلاسفة (ما بعد الحداثة). ولعل الفيلسوف الألماني المعروف (يورغن هابرماس)، خير من تولى توصيف مضمون نقد (مابعد الحداثة) للحداثة، بأنها، أي الحداثة، إذ "هي مشروع واعد وطافح بالآمال، فإن نقدها ليس إلا نقدًا وحيد الجانب وجانبي الرؤية". إضافة إلى فكرة لم يولها هابرماس، كما يقول الفيلسوف المغربي: محمد سبيلا، ما يكفي من التحليل، وهي أن ما يسمى (ما بعد الحداثة) ليس قطيعة مع الحداثة أو تجاوزًا لها، وأن هناك شططا في التسمية (العربية خاصة)، والمتمثل في الإيحاء الذي توحي به كلمة (ما بعد) من تحاقب وتعاقب. ومع كل الانتقادات التي وجهت للحداثة ولعصر الأنوار، إلا أن عقل الأنوار حقق، كما يقول سبيلا، "حلم الإنسان في أن يصبح سيدًا للطبيعة، وحرره من هيمنة الكنيسة المطلقة، ومن الميتافيزيقا، ومن الاستبداد المجتمعي والسياسي". هذا باختصار مدخل، ما يتعلق بقصة مصطلح (مابعد الحداثة) في الغرب، الذي هو موطنه الوحيد، إذ لا حداثة، وبالتالي فلا (مابعد حداثة) إلا في الغرب. عندما نتحدث عن (مابعد حداثة) عربي إسلامي، فإننا لا نعدو أن نكذب على تاريخنا، ونخدع أمتنا، ونؤخر شحذ همتها للتطور واللحاق بالأمم المتقدمة، لأنه ببساطة، لم توجد بعد حداثة عربية، وبالتالي من البدهي ألا يوجد (مابعد حداثة) عربي إسلامي! يجوز لنا مثلا، أن ننتقد الصحوة انطلاقا من (مابعد الصحوة)، لأننا عشنا الصحوة، كما يجوز لنا مثلا أن نتحدث عن الطفرة في (ما بعد الطفرة)، لأننا عشنا الطفرة، كما يجوز لنا أن نستشرف (ما بعد النفط)، لأننا لا نزال نعيش فترة النفط كسلعة ريعية. لكن لا يجوز لنا كعرب وكمسلمين أن نتحدث عن (ما بعد الحداثة)، لأننا ببساطة لم نعش الحداثة بعد. اللهم إلا إذا ظن بعضنا أن مجرد استهلاك المخرجات التكنولوجية المادية للحداثة يعد دخولا للحداثة!. وأسوأ من ذلك، من يتخذ من نقد فلاسفة الغرب للحداثة منطلقا لرفض الحداثة، بمبرر أنها رُفِضَتْ في موطنها. فمثل هذا التفكير يرتكب خطأ مضاعفا. أولًا: لأننا، لم نعش بعد، كعرب ومسلمين، الحداثة، حتى نتحدث عن (مابعدها)، وثانيا: لأن نقد فلاسفة الغرب ل(مابعد الحداثة) ليس رفضا للحداثة، بقدر ما هو نقد وتصحيح لمسار عقل التنوير، وهو العقل الذي أخرج الغرب من ظلمات الجهل والخرافة والشعوذة واللاعقلانية والتواكل واللاسببية. وهذا ما حذر منه الفيلسوف: سبيلا بقوله: "لكن هناك دافعًا آخر قويا، وهو أن طغيان مشاعر الهوية الدفاعية، وما تولده من نرجسية ثقافية ونزعة أصولية، يدفع في اتجاه القول بأن الحداثة التي تتعلقون بها وتتبجحون بها، قد مجَّها أصحابها أنفسهم، وانتقدوها، وهم في طور تجاوزها نحو (ما بعد الحداثة)". كما استشعر خطر هذا الاتجاه أيضا الأستاذ: محمد السيد سعيد بقوله: "نقد ما بعد الحداثة يدغدغ مشاعر معينة بين المثقفين والمفكرين العرب، من حيث يبرر لهم استمرار الخصومة مع الحداثة بمعنى التغريب. ولكن النقد (ما بعد الحداثي) هو في الحقيقة نقد (لا تاريخي) بالنسبة لنا، حيث إننا لم نمر بعد بعملية الحداثة والتحديث، بالمعنى الأعمق للمصطلح. فهذا النقد يسوي في الحقيقة حسابات غربية، ولا يقدم لنا مشروعية تاريخية، سواء بالنسبة لمجتمعاتنا ما قبل الحديثة، أو لحاجتنا لتجاوز نماذج الحداثة الأوروبية". من جهة أخرى، هناك مَن يستخدم مصطلح (ما بعد الحداثة)، ويقصد بالحداثة: الحداثة الأدبية، والشعرية منها بالذات، كالشعر الحر. وأبرز أنموذج لهذا الضرب من التفكير، ما جاء في كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام)، للدكتور عوض القرني. فهذا الكتاب، على ما فيه من ملحوظات ومآخذ منهجية ومعرفية، فإن مؤلفه لا يقصد الحداثة الفكرية، بقدر ما يقصد نماذج من الشعر الحداثي الحر، وهو شعر راج لدينا في التسعينيات الميلادية، بصفته ممثلا للحداثة. وهذا الضرب مما يطلقون عليه الشعر، أو الأدب الحداثي، لا يمت بصلة إلى الحداثة الحقيقية، التي هي حداثة أفكار في المقام الأول، حداثة تولدت عنها مفاهيم ومصطلحات تقدمية، سواء في الاقتصاد أم في الاجتماع أم في السياسة، أم في التعليم. وهذا ما ينتقده الفيلسوف سبيلا عندما يقول: "إن هناك ميلاً في الثقافة العربية المعاصرة، وبخاصة في مجالات الأدب والفن، إلى تبني أفكار ما يسمى تجاوزا (ما بعد الحداثة)، وذلك إما تحت تأثير موجات الموضة والاتباع، أو تحت تأثير دفع لا واعٍ نحو تخطي أو حرق المراحل في عملية شبه سحرية". أما المفكر الإيراني عبدالكريم سروش، فلقد عبر عن خطورة هذا التبني العربي الإسلامي الخاطئ لمصطلح (مابعد الحداثة) بقوله: "إن الغرب يمر بمرحلة انتقالية،(من الحداثة إلى ما بعد الحداثة)، ويمر بتجربة جديدة تتطلب من المثقف (الغربي) إيجاد آليات للعبور (من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة). أما في العالم الثالث، فنحن نعيش حالة العبور أيضا، ولكن ليس من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، بل من التراث إلى الحداثة. ومن البدهي أن هاتين الحالتين تختلفان في الأحكام. فبينما نعيش نحن حالة العبور من التراث إلى الحداثة، ويتحرك الغرب بموازاتنا في العبور من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، يتصور بعض المقلدين أن بإمكاننا العبور أيضا إلى مرحلة ما بعد الحداثة، قبل الوصول إلى عصر الحداثة. وهذا التوهم في غاية الخطورة، بسبب التقليد الأعمى للشعارات المطروحة في الغرب، والتي من شأنها تكبيلنا ثقافيا، وحرماننا مما بين أيدينا". وهذا ما يؤكده من جهة أخرى، الفيلسوف سبيلا، عندما يقول: "إن الوجه الذي عُرِفتْ به الحداثة في الثقافة العربية، يقتصر على الوجه السياسي، المتمثل في مكونات ومظاهر الحداثة السياسية، وفي الحداثة التقنية والتنظيمية عامة، أما الأبعاد الفكرية والفلسفية للحداثة، فهي ماتزال غائبة أو مغيَّبة عن أفقنا الفكري". لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net

مشاركة :