توقفت في ختام الجزء الأول من هذا المقال عند الحديث عن الخطوة الثانية مما قال عنه المفكر التونسي(ميزري حداد) إنه صناعة غربية ل"الربيع" العربي, وهي الخطوة التي اتسمت ب"إصلاح الغرب لعلاقاته مع جماعات الإسلام السياسي, والإخوان المسلمين منهم تحديدا". ولربما بدت مظاهر هذا الإصلاح في موقف الغرب, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية مما يجري في مصر من أحداث آنية, فلقد بدت الإدارة الأمريكية إخوانية أكثر من الإخوان أنفسهم, حتى وإن حاول الإخوان, عبثا, صرف الأنظار عن الموقف الأمريكي المؤيد لهم, بالإدعاء بأنها, أي أمريكا, خلف ما سموه"الانقلاب" على "الشرعية". إن ما تمر به المنطقة العربية من أحداث ظاهرها «ربيع» عربي, فباطنها يتوفر على منعطف تاريخي كبير, قرر فيه الغرب أن يدشن (سايكس - بيكو) جديدة, من خلال طلاء»ديمقراطي» مزيف محمول على ظهر ما انخدع به العرب والمسلمون على أنه»ربيع» عربي ديمقراطي تفوز به جماعات«الإسلام» السياسي التي قرر الغرب, بعد طول ممانعة, أن يتحالف معها يورد المفكر حداد شواهد على العلاقات الجديدة المتميزة للغرب مع جماعة الإخوان, فيقول:إن الأوامر أعطيت للسفراء الغربيين في القاهرة وتونس وسواهما من العواصم الأخرى لكي يستقبلوا قادة الإخوان المسلمين متى شاؤوا, أو أن يزورهم هم(= السفراء) في مكاتبهم ومقارهم(= قادة الإخوان). ولم يعد وزراء خارجية الغرب يحلفون كما ينقل عنه هاشم صالح إلا باسم الإخوان المسلمين. وفضلا عن ذلك, أخذ الغرب يشيد بمزايا ما يطلق عليه"الإسلام المعتدل" الذي تمثله الحركات "الإسلامية" التي يقصدها الغرب بعلاقته الجديدة. بل وصل الأمر بسياسي محنك ك(آلان جوبيه): وزير الخارجية الفرنسي السابق, أن يقول لقادة الحركات الإسلامية الذين جمعهم في معهد العالم العربي في باريس:" فاجئونا نفاجئكم!", بمعنى, كما يقول صالح, "استمعوا إلى وصايانا تجدوا ما يسركم. سوف نتخلى عن الأنظمة الحاكمة فورا من أجل سواد عيونكم. سوف تحكمون العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه, شرقا ومغربا". بل إن حداد يذهب إلى أبعد من ذلك, ورؤيته تستحق أن يُتأمل فيها, فهو خبير ومتمرس, ويعيش في الغرب, ويحاضر في الجامعات الفرنسية, إنه يرى أن الموقف الغربي الجديد يعبر عن حصول متغير(جيوبوليتكي) أعظمَ بالقياس إلى كل المراحل السابقة, وسوف تترتب على هذا المتغير كما يقول انعكاسات كبرى لم نستوعب ضخامتها وحجمها بعد, وإن ما تمر به المنطقة العربية من أحداث ظاهرها"ربيع" عربي, فباطنها يتوفر على منعطف تاريخي كبير, قرر فيه الغرب أن يدشن (سايكس بيكو) جديدة, من خلال طلاء"ديمقراطي" مزيف محمول على ظهر ما انخدع به العرب والمسلمون على أنه"ربيع" عربي ديمقراطي تفوز به جماعات"الإسلام" السياسي التي قرر الغرب, بعد طول ممانعة, أن يتحالف معها. ولعل السؤال المركزي, بل المفصلي هنا هو: لماذا قرر الغرب التحالف مع جماعات"الإسلام" السياسي ضدا على الأنظمة القائمة؟ هل يعبر هذا الموقف الجديد عن رغبة جادة ل"دمقرطة" العالم العربي والإسلامي؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال, ينبغي العلم بأن العقل السياسي الغربي ينطلق في تقييمه للمواقف والسياسات من مقولات ونظريات فلسفية معينة. فمثلا, كان المحافظون الجدد ينطلقون في عسكرتهم لعلاقات أمريكا الخارجية مع بعض العالم الثالث من نظرية صدام الحضارات التي قال بها الفيلسوف الأميركي: صمويل هنتجتون( 1927 2008م), ويتبعها اليوم الفيلسوف المعروف: برنارد لويس, والتي تقول باستحالة تلاقي الحضارة العربية الإسلامية مع الحضارة الغربية, لاختلاف البنى الثقافية بينهما. كما وانطلقوا من نظرية نهاية التاريخ التي قال بها الفيلسوف الأمريكي من أصل ياباني: فرانسيس فوكوياما التي ضمَّنها كتابه المعروف( نهاية التاريخ والإنسان الأخير), والتي تقرر أن" تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى إلى غير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين, لتحل محلها القيم الليبرالية الدستورية الديمقراطية الغربية". على نفس المنوال, أعني تلازم العقل السياسي الغربي مع العقل الفلسفي, تنطلق الإدارة الأمريكية الديمقراطية اليوم بقيادة الرئيس: باراك أوباما, في علاقتها الجديدة والمتميزة مع الإخوان المسلمين, مما تقرره الفلسفة الذرائعية البراغماتية التي بلورها الفيلسوف الأميركي: وليام جيمس(1842 1910م), والتي تتمحور حول القول بأنه ليست هناك أفكار صحيحة بذاتها,أو خاطئة بذاتها, بل هناك أفكار مفيدة عمليا, وأفكار غير مفيدة. يقول المؤرخ المعروف: ول ديورانت في كتابه( قصة الفلسفة) عن هذه الفلسفة إنها تقول" لكي نجد معنى للفكرة, ينبغي أن نفحص النتائج العملية الناجمة عنها, إذا بدون هذا, فإن النزاع حول معنى الفكرة لن ينتهي, ولن يؤدي إلى أي فائدة. ويقول" عوضا عن أن نسأل عن الفكرة ومن أين جاءت, ومن أين أُسْتُمِدت, و ما هي مقدماتها, فإن (البراجماتيزم) تفحص نتائجها وثمرتها", و لا قيمة للأفكار إلا إذا أرشدتنا ودفعتنا إلى تحسين أوضاع حياتنا وأعمالنا على هذه الأرض". الإدارة الأمريكية الحالية قررت اعتمادا على هذه الفلسفة, أنه إذا كان السياق الحالي يفرض علينا التعامل مع الإخوان المسلمين, فلم لا؟ إنهم إذ يمثلون الثقل الشعبي اليوم بقدرتهم على حشد الجماهير تحت رايات ويافطات دينية, وبنفس الوقت يتوفرون (أعني الإخوان) على عقلية براغماتية تختلف عن العقلية الجهادية التكفيرية التي تتبعها الحركات العنيفة, وتتفق مع العقل الذرائعي الأميريكي, فلم لا نتعامل معهم, ونمد جسور التعاون, بل والتحالف معهم؟ هكذا يتساءل السياسي الأمريكي اليوم. نعم إن الإخوان المسلمين قادرون على تعبئة الشارع وحشده لحساب شعارات يعرفون قبل غيرهم أنها غير قابلة للتطبيق, وبنفس الوقت, فإن أدبياتهم السياسية والإيديولوجية التي ينطلقون منها تتيح لهم التحالف مع أي كائن من كان لتحقيق طموحاتهم, ما جعل الإدارة الأمريكية تقرر التخلي عن الأنظمة الحاكمة والتحالف معهم ودعمهم, لا سيما وقد رأت هذه الإدارة أن بلدا مثل تونس تتحكم فيه العلمانية منذ أيام أبي رقيبة, ولديه نظام تعليمي متطور, تُدرَّسُ فيه الفلسفات, القديمة منها والحديثة, ومقررات مقارنة الأديان, ولديه مفكرون وفلاسفة كبار, يسقط مع أول انتخابات حرة تجري فيه بعد سقوط نظام ابن علي, في حضن الإخوان بضربة سحرية, فإذا كان الأمر كذلك, فإن الإخوان في ما سوى تونس سيكونون أكثر شعبية وأقدر على الحشد, مما يعني أن التحالف الأميريكي الذرائعي البراغماتي يجب أن يكون معهم. وهذا ما حدث بالفعل, فلقد أظهرت الإدارة الأمريكية, أثناء الأزمة المصرية الحالية, (أخونة) أكثر من الإخوان أنفسهم, فلم تتأخر, مثلا, عن إدانة القبض على مرشد الجماعة: محمد بديع بلهجة حاسمة, بنفس الوقت الذي يدك فيه الأسد غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي, الذي لم تكلف تلك الإدارة نفسها أن تدينه بمثل ما أدانت به القبض على مرشد الإخوان! والخلاصة التي ينتهي إليها المفكر التونسي ميزري حداد أن "الربيع" العربي ليس ربيعا ديمقراطيا ذاتيا كما تأمل وتتمنى الشعوب العربية, بل كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يتناسب ومصالحها في المنطقة, وبما ينطلق من الفلسفة الذرائعية البراغماتية, فاتجهت إلى التيار ذي الجماهيرية الأكثر:جماعة الإخوان المسلمين, لا سيما وهي جماعة يسهل التعامل معها نتيجة براغمايتها السياسية التي تختلف جذريا عن مضمون الشعارات الدينية البراقة التي تلهب بها عواطف الجماهير. ولقد تكشف طرف من تلك البراغماتية التي تتميز بها جماعة الإخوان أثناء حكمها لمصر, لا سيما في علاقتها المتميزة بالولايات المتحدة واحترامها للاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل ربما بشكل أكبر مما هم متوقع منها.
مشاركة :