للأسف لا ينطبق العنوان أعلاه على مواضيع المقال أدناه وإن كان يتماس معها. فهو ليس مقالاً عن التنكر الاجتماعي للكتابة باعتبارها عملاً، والذي نتج عنه سياسات التفريط الطويل من قبل الصحف والناشرين في مجتمعنا ومجتمعات أخرى ربما، في حقوق أصحابها المالية أو في أحسن الأحوال تحجيمها للحد الأدنى ما استطاعوا لذلك سبيلاً مع أن الكتابة في رأي المجربين من أصعب أنواع العمل. هي عمل خلاق بما يتطلبه ذلك من إخلاص ومثابرة ومن تبتل واستغراق. على أن هذا المقال ليس أيضاً للكتابة عمن فقدوا عملهم في الكتابة وليس لرثاء حال الكُتاب الذين فقدوا مع فقد عملهم مصادر دخلهم المتواضع على حاجة، نتيجة تهاوي الصحف الورقية لدينا دونما يفكر أحد في مصائرهم امتداداً لتلك النظرة «الرومانسية القاسية» التي لا ترى الكتابة عملاً. المقال ببساطة تأملات في تحولات الكتابة الجارفة الجميلة واحتفاء بالأمومة والشعر وإن ليس بعيداً عن جراح أو حروق يد الكُتاب التي قد لا يحسها من أيديهم من ماء أو في ماء. بين ميولين كما أميل إلى كتابة المقالات ذات الموضوع الواحد طويلة النفس التي قد أبدؤها مع إطلالة طفولة الليل ولا أنتهي منها إلا مع اندلاع صبا النهار بل أحياناً أعمل عليها عدة أيام حتى عندما لا أكون جالسة إلى طاولة الكمبيوتر.. وذلك نظراً لما تمنحني من إحساس بالتحدي وباتساع الفضاء سواء انداحت أو تعقدت مواضيعها, فإنني أميل أيضاً لكتابة المقالات القصيرة المتنوعة الجريئة أو المتحفظة، والتي تأتي مكونة من عدة موضوعات لأنها تعطيني شعوراً بالتحدي لا يقل عن المقالات الطويلة وإن اختلف نوعياً لما تتطلبه المقالات القصيرة من تكثيف واختزال معبر. تجريب الأجنحة ولعلني لتزاحم المواضيع على جدول اهتماماتي وانشغالاتي هذا الأسبوع الذي انتهى اليوم (21 مارس) بكل ما يحمل هذا التاريخ من عبير الربيع ومن عبير الأمهات بتنصيبه يوماً للأم، ومن عبير الشعر حيث استنته اليونسكو يوماً عالمياً للشعر، فإنني في هذا اليوم المفعم بالأمومة والقصائد واندلاعات العشب ولو في المخيلة سأحاول أن أكتب في هذه المقال النوع الثاني من تلك الكتابة المكونة من عدة مواضيع أو بالأحرى عدة وقفات. والواقع أن ما سأكتبه هنا ليس مواضيع ولا مقالاً بالمعنى الموضوعي، ولكن بالمعنى المجازي الذي نخترعه أحياناً لتجريب الأجنحة ليس إلا. تحدي تجدد أدوات الكتابة وأوعيتها ليس لنا المكابرة بأن التقنية الجديدة للكتابة في التحول من القرطاس والقلم إلى الشاشة ولوحة المفاتيح أي من الكتابة الورقية الحبرية إلى الكتابة الضوئية تمضي اليوم قدماً مما قبل مطلع الألفية الثالثة إلى ما يشاء الله في تغيير أسلوبنا السابق في الكتابة شكلاً ومضموناً. وإذا أضفنا لهذا التحول التقني في الأدوات ذلك التحول المصاحب في أرضية العمل الكتابي نفسه بأنواعه من الأدب للثقافة المتمثل في انتقال الكتابة من أرض «الصحيفة والكتاب» إلى أرض «الفضاء الإلكتروني» فإننا سنجد أن هذا التحول قد خلق أرضا بكرا للعمل بكل ما يحمل ذلك من متطلبات التغيير في عملية الكتابة وذاتها. وإذا كان من الملاحظ كذلك أن الواقع الجديد يحرر للكتابة مساحات جديدة لم يصلها بنات خيال الكُتاب من قبل، ويطلق عقال مساحات كانت محرمة رقابياً ومساحات كانت محكومة بشروط النشر (الضارة والنافعة) بما فيها ميزة «التدقيق اللغوي»، فإن الملاحظ بالمقابل أن فضاء الكتابة الإلكتروني يتراوح اليوم على اتساعه وارتفاع سقفه بين مساحتين محددتين ليس إلا. هما المساحات الإلكترونية اللامحدودة المتاحة للكتابة المترامية كمحيط يتسع شعوباً، والمساحات الصغيرة المنكمشة كمضيق بالكاد يتسع للفرد. وفي ذلك التموج الإلكتروني والبشري بين الجماعي والفردي تواجه الكتابة اليوم ويواجه كتابها تحدياً يومياً لمضاهاة التحديثات المتلاحقة في متطلبات تغير الكتابة أسلوباً وأدواتٍ ذاتاً وموضوعاً. فعلى سبيل المثال بينما يتسع فضاء الفيسبوك والمدونات لمطولات على المسؤولية الشخصية للكاتب وبمخاطرها المحتملة لغوياً ورقابياً، فإن فضاء تويتر يتطلب من الكُتاب دربة ليست سهلة في الاختزال والتكثيف على مزالق خيانة العبارة أو الفكرة مع محاذير سوء التفسير والترصد. وبغض النظر عن مثال الفيسبوك وتويتر المحدودين وما إليهما من النوافذ المحكومة بشروط شركاتها العالمية، لابد من الاعتراف بأن الفضاءات الإلكترونية الجديدة تعتبر تجربة تعلمية صعبة على بعض المجتمعات والدول المعتادة على العلاقة الوصائية بالكلمة. وللمفارقة لا بد من الاعتراف أيضاً أن هذه الفضاءات الجديدة وإن شكلت تحدياً يومياً لأدوات الكتابة ولشكلها ومرماها فإنها تخلق نشوة الإحساس بالحرية وشعورا فتيا بلهفة ودهشة مغامرة الكتابة بأساليب مغايرة وإن لم يخل الأمر من رهبة المسؤولية الفردية الخالصة أمام الضمير الشخصي وأمام الرأي العام. كلمات من ريش الشعر وسماء الأمومة لا أدري أي صدفة إبداعية أو عمد خلاق تلك جعل من أول أيام فصل الربيع احتفائية بالأمومة وبالشعر. فإذا كان ليس ما يضاهي الأمومة كأشرف ما في البشرية من مشاعر لاريب في شفافيتها وصدقها في أحلك المواقف وأزهاها وليس ما يضاهي الأمومة كأعظم فعل من أفعال العمران البشري، فإن الشعر في رأيي هو المعادل الجمالي السمعي والبصري العقلي والوجداني الوحيد الذي يمكن أن يجبر البشر على جعله القرين الروحي للأمومة باعتبارهما معا فعل تجلٍ وانغماس وبوصفهما خبز الحياة وملحها. كلمة الأمومة لا أستطيع أن يمر يوم الاحتفاء بالأم دون أن أشعل الوجود بشمس وجهك.. دون أن أفشي للكون أسراراً صغيرة من عرقك وعطرك.. دون أن تنتشي المخلوقات الشفيفة والمخلوقات اليابسة بماء أمومتك.. ودون أن أنذر حياتي لإحياء حكمتك وخُلقك والذود عن سدرك ونخلك. رحمك الله يا شريفة نور أمي وأبقاك نوراً لحبري وضميري. كلمة الشعر فيما يقلب يوم الشعر العالمي صفحة ذلك اليوم أفتح للشعر صفحة جديدة لتكون لشموس القصائد وعواصفها ورياحها وحزنها ومرحها وحلكتها ونبؤاتها وضيائها وتجددها وعطشها ونشوتها كل أيام العام وكل محطات العمر دفعة واحدة ولحظة لحظة.
مشاركة :