في الآونة الأخيرة أعلنت شركة «أرامكو» السعودية -عملاق النفط العالمي- توقعها خفض الإنفاق الرأسمالي، بعد تراجع صافي أرباحها في 2020 بنسبة 44.4%، بسبب انخفاض أسعار النفط وانخفاض إنتاجه، وتراجع هوامش مصافي التكرير، والسبب الرئيسي وراء ذلك هو التأثر الشديد للاقتصاد العالمي بسبب أزمة كورونا، التي فرضت قيودًا مشددة على السفر والانتقالات، وضربت قطاعي السياحة والطيران. ومن المعلوم أن النفط يعد من أهم السلع التي تؤثر ليس فقط على الاقتصاد الخليجي أو اقتصاد الشرق الأوسط، ولكنها تؤثر في النمو العالمي كله. وفي وسط تخمة المعروض النفطي فإن كل منتج يبحث عن حصة له في هذا السوق المتراجع بما يؤثر على إمكانية الاتفاق والتنسيق بين المنتجين. ولم يكن اتجاه سعر النفط إلى الهبوط في الآونة الأخيرة هو السمة الوحيدة لأسعار النفط. ففي الأجل القصير اتسمت هذه الأسعار بالتذبذب، ما يبين مدى حساسيتها للتغيرات والأنباء المتعلقة، سواء بمستوى المخزونات أو خطط الإنتاج، أو الأحداث والتغيرات السياسية. ففي شهر مارس 2021 حين أعلنت الأوبك تقريرها الشهري، متوقعة ارتفاع الطلب العالمي على النفط بواقع 5.89 ملايين برميل يوميا، ليصل إجمالي الطلب العالمي المتوقع على النفط إلى 96.3 مليون برميل يوميا، وتسارع النشاط الاقتصادي خلال هذا العام، وارتفاع معدل النمو الاقتصادي العالمي المتوقع إلى 5.1%، وانحسار أثر جائحة كورونا صعد سعر مزيج برنت بنسبة 2% ليصل إلى 69.14 دولارا للبرميل. ومع نمو الطلب الذي توقعته أوبك كان إنتاج أوبك النفطي قد تراجع في شهر فبراير، وعاد أعضاء «أوبك بلس» إلى خفض الإنتاج مع تعهد السعودية بخفض إضافي مليون برميل يوميا في فبراير ومارس، أي أن نمو الطلب المتوقع قد صاحبه خفض إنتاج فعلي، ما دفع إلى هذا الارتفاع في الأسعار إلى مستوى 70 دولارا للبرميل. ويبدو أن هذا السعر كان قمة الصعود، ففي اليوم التالي مباشرة أخذت الأسعار في التراجع، ولكن نشر بيانات عن تسارع تعافي الاقتصاد الصيني، وما يتبعه من دعم الطلب على الطاقة، أدى إلى عودة الصعود ثانية إلى مستوى 70 دولارا في 15 مارس، حيث تجاوز نمو الناتج الصناعي الصيني في يناير وفبراير 2021 التوقعات، وارتفع إنتاج مصافي التكرير بنسبة 15% مقارنة بنفس الفترة من السنة السابقة. وهذا النمو الصناعي القوي يحتاج إلى طاقة للشحن والتصدير، وجاء هذا مع خفض إمدادات الخام السعودي، وتمديد أوبك بلس تخفيضاتها حتى أبريل. وعلى الرغم من ذلك، لم يصمد هذا الصعود لأكثر من يوم، إذ انخفض سعر خام برنت في اليوم التالي بنسبة 0.7% متأثرًا بأنباء عن زيادة مخزونات النفط الأمريكي، وتعليق بعض الدول الأوروبية استخدام لقاح أسترازينيكا المضاد لكوفيد–19، وكلها عوامل تدعو إلى تخفيض الطلب، ولكن صدور بيانات انخفاض الخام الأمريكي أعاد أسعار النفط إلى الارتفاع بنسبة 0.54% أي بنسبة أقل من نسبة انخفاض اليوم السابق، وعادت هذه الأسعار إلى الانخفاض في 18 مارس متأثرة بارتفاع سعر الدولار وارتفاع المخزونات الأمريكية واستمرار التأثير الشديد لجائحة كورونا على النشاط الاقتصادي، ليصل سعر خام برنت إلى 67.63 دولار للبرميل، وكانت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية قد أفادت بأن مخزونات الخام الأمريكي قد زادت بـ2.4 مليون برميل بعد يوم واحد من تقدير لمعهد البترول الأمريكي أشار إلى انخفاض هذا المخزون بمقدار مليون برميل، وبسبب إجراءات العزل الجديدة التي اتخذتها عدة دول أوروبية نتيجة تزايد إصابات بكورونا انخفض سعر خام برنت يوم 19 مارس إلى 63.18 دولارا للبرميل. ومع توقع بنك «جولدمان ساكس» هبوط أسعار النفط بنحو 9% في الآجل القصير بسبب جائحة كورونا وارتفاع سعر الدولار الأمريكي، إلا أن ما يمثله السعر المنخفض من فرصة للمشترين قد جعل البنك يتوقع أن يصل سعر خام برنت إلى 80 دولارا للبرميل في صيف هذا العام، بفعل مؤشرات نمو الطلب وارتفاع معدلات التحصين ضد كوفيد–19. ويعد العامل الحاسم إذن في انخفاض أسعار النفط هو تفشي الإصابة بفيروس كورونا، وما يستتبعه من إجراءات عزل وتقييد الحركة، بينما العامل الحاسم في صعود الأسعار هو التعافي من هذه الجائحة وعودة الاقتصاد إلى الحركة، وفي وسط إدارة هذه الجائحة، إجراءات موازنة العرض مع الطلب، سواء بتحديد الإنتاج، كما حدث من قبل أوبك بلس، حتى يمكن التخلص من تخمة المعروض، أو نمو الطلب الصناعي وحركة الصادرات، كما حدث من قبل الاقتصاد الصيني، وبدخول الولايات المتحدة إلى رأس قائمة المنتجين والمصدرين والمستوردين، تظل تطورات الإنتاج والمخزون الأمريكي من أكبر العوامل المؤثرة في حركة الأسعار، كما رأينا في استعراض تطور السعر خلال شهر مارس. وفي الآونة الأخيرة بدأت شركات طاقة أمريكية في استغلال صعود أسعار النفط نتيجة التفاؤل بعودة الطلب، بإضافة عدد كبير من الحفارات في الأسبوع المنتهي 19 مارس، حيث زادت بمقدار 9 لتصبح 411 حفارة، وهو أعلى رقم من أبريل 2020. وإذا كانت توقعات «أوبك» بشأن نمو الاقتصاد العالمي والطلب على النفط مع خفضها لإنتاجه، كان من شأنها صعود الأسعار، فإن التوقعات الصادرة عن «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» لعامي 2021 و2022 -وهي المنظمة التي تضم أكبر اقتصادات العالم- قد أفادت بالمقابل، أن بعض الاقتصادات الأوروبية لن تعوض الناتج المحلي الإجمالي الذي خسرته حتى 2022. وإذا كان الطلب الآسيوي يتعافى بوتيرة جيدة، فإن توقعات الطلب الأوروبي أكثر قتامة، ولكن الهجوم على محطة رئيسية لتصدير النفط الخام السعودي جنبًا إلى جنب مع خفض الإمدادات كان له انعكاسه في حدوث ارتفاع الأسعار، ولا شك أن اتجاه الأسعار سيتأثر بعودة إنتاج ليبيا وإيران وفنزويلا إلى السوق النفطي، والتي ستؤدي إلى زيادة المعروض، فإذا لم يصاحبها صعود في الطلب فإن الأسعار تظل قابلة للهبوط، وهكذا فإن أسعار النفط بفعل العوامل المؤثرة على جانبي العرض والطلب تظل واقعة تحت ضغوط عكسية، ارتفاعًا وانخفاضًا، وفي حالة الارتفاع يستفيد المنتجون، وفي حالة الانخفاض يستفيد المستهلكون. ولأن الارتباط بين النفط والدولار يعد من مسلمات الاقتصاد العالمي، حيث إن أكثر من 50% من صادرات العالم يتم دفع قيمتها بالدولار بما فيها البترول، فإن التذبذب والاضطراب في سعره يؤثر على سعر النفط، كما يؤثر على تقييم العملات الأخرى في المقابل؛ فانخفاض سعر الدولار إذن يؤدي إلى ارتفاع سعر النفط الخام، كما أن ارتفاع سعره أيضا يؤدي إلى انخفاض سعر النفط الخام، فالعلاقة بينهما علاقة عكسية، وارتفاع سعر الدولار في الآونة الأخيرة إزاء أكبر 6 عملات رئيسية كان من أسباب هبوط سعر النفط. من ناحية أخرى، فإن ظاهرة تذبذب أسعار النفط جعلت كل دول مجلس التعاون الخليجي تبني استراتيجياتها ورؤاها الاقتصادية الطويلة الأجل على التحرر من الاعتماد المطلق على هذه السلعة الاستراتيجية، إلا أن النفط كما هو معلوم مازال هو عماد الاقتصاد الخليجي، وقد مثل انخفاض أسعاره، متواكبًا مع الكلفة الإضافية لمواجهة جائحة كورونا، عنصر ضغط كبيرا على هذا الاقتصاد. وكانت تقديرات صندوق النقد الدولي في يونيو 2020 تشير إلى انكماش الاقتصاد الخليجي بنسبة 7.6% في 2020، مع تحقيقها نموا إيجابيا بنسبة 2.5% في 2021. وانعكس تراجع أسعار النفط على موازنات الدول الخليجية، مخلفة عجزًا لا تستطيع تفاديه، لتبلغ قيمة العجز في الموازنة السعودية 38 مليار دولار، فيما بلغ عجز الموازنة الكويتية نحو 5.7 مليارات دولار، وتوقع البنك الدولي في أكتوبر 2020 انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في الكويت بنسبة 7.9% وسلطنة عُمان بنسبة 9%، وقطر بنسبة 2%، والبحرين بنسبة 1.1%، والسعودية 5.4%. وفي ضوء التفاؤل الذي ساد العالم بالتوصل إلى لقاحات ضد فيروس كورونا، وتأثير ذلك على عودة تعافي الطلب على السوق النفطية، فقد توقع تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» الصادر عن الأمم المتحدة في مستهل عام 2021 عودة الاقتصاد الخليجي إلى النمو بنسبة 3.5% في 2021 مقابل انكماش 5.4% في 2020، وأن يكون قطاع الطاقة المحرك الرئيسي لنمو الإيرادات الحكومية لدول المجلس، بعد أن هبطت الأسعار في العام الماضي نتيجة تفشي كورونا، وامتثال دول المجلس لتخفيضات الإنتاج الملزمة، فضلاً عن التخفيضات الطوعية، وهو ما ترتب عليه انخفاض أسعار النفط في 2020 بنسبة 35%، مقارنة بمتوسط الأسعار في 2019، وبرغم انخفاض الإيرادات الحكومية، فقد قامت الدول الخليجية بحزم تحفيزية بلغت قيمتها 194 مليار دولار. إلى جانب هذا توقعت وكالة موديز لخدمات المستثمرين في آخر فبراير 2021 سد العجز الحالي في الموازنات العامة للدول الأعضاء في دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة كبيرة في 2021، الأمر الذي لن يجعلها في حاجة إلى إصدار سندات سيادية في 2021 على نفس النحو الذي قامت به في 2020، وقالت الوكالة في تقريرها إن الأسباب التي تدعو إلى ذلك هي تراجع الحاجة إلى الإنفاق المرتبط بجائحة كورونا، وتسارع الأنشطة الاقتصادية، وارتفاع أسعار النفط. غير أن أحدث التقارير المرتبطة بتأثير تذبذب أسعار النفط على الاقتصاد الخليجي هو تقرير «بيت التمويل الدولي» في 19 مارس، الذي توقع فيه أن يحقق الاقتصاد الخليجي نموا بنسبة 2.5% في 2021 مقابل انكماش 4.9% في 2020. ويرجع هذا النمو إلى ارتفاع أسعار النفط ونمو الناتج المحلي غير النفطي بمتوسط 3.1%، بعد أن كان قد سجل تراجعًا بنسبة 4.1% في 2020، ويبني التقرير توقعاته على أساس متوسط سعر متوقع للبرميل 60 دولارا في 2021، وهو سعر يزيد بنسبة 40% على متوسط سعر العام الماضي. وينعكس هذا الارتفاع على تراجع نسبة عجز الموازنة العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي الخليجي من 9.1% في 2020 إلى 1.2% في 2021، فيما توقع التقرير أن تحقق السعودية معدل نمو 2.4%، والإمارات 2.6%، وسلطنة عُمان 1.4%، وقطر 3.3%، والكويت 2.2%، والبحرين 3.4%، ويعزز هذا النمو وتحقيق هذه المعدلات الإيجابية تمكن الاقتصادات الخليجية من السيطرة على معدلات التضخم، وخاصة البنود غير المرتبطة بالاستيراد كإيجارات المساكن التي تشكل نحو 27% من متوسط سلة المستهلكين، وهي الإيجارات التي حققت انخفاضًا بشكل شبه مستمر منذ 2018، وتوقع مؤشر «أكسفورد إيكونمكس» أن تكون معدلات التضخم 0.8% في البحرين، و2.2% في الكويت، و3% في عُمان، و0.8% في قطر، و3.6% في السعودية، و0.7% في الإمارات، كما يدعم عودة النشاط الاقتصادي إلى التعافي أسعار الفائدة المنخفضة في دول المجلس.
مشاركة :