أوضحت إدارة بايدن، بعد شهرَين على وصولها إلى السلطة، ركيزتَين أساسيتَين من سياستها المرتقبة تجاه موسكو: هي لا تهتم بإعادة ضبط العلاقات الثنائية، ولا تعطي الأولوية لروسيا. يهدف التشديد على اختلاف التوجّه الراهن عن طموحات الرئيس دونالد ترامب إلى توجيه رسالة إلى الرأي العام الأميركي والكرملين مفادها أن البيت الأبيض يخضع لإدارة جديدة وأكثر صرامة. لم يتّضح بعد مدى قدرة الإدارة الأميركية على التمسك بموقفها الأولي من روسيا في حين تعمل على صياغة تفاصيل سياستها خلال الأشهر المقبلة، فلا مفر من وقوع المفاجآت وقد تضطر الإدارة للتواصل مع روسيا بما يفوق توقعاتها أو رغباتها، كما حصل مع الإدارات الأميركية السابقة، ستدرك الإدارة الجديدة أن روسيا تبقى لاعبة مؤثرة في ملفات كثيرة وستضطر إدارة بايدن للتعامل معها قريباً، ولن يكون إنهاء "الحروب اللامتناهية" في أفغانستان وسورية بشروط مُرضِية، كما تعهد بايدن، هدفاً ممكناً من دون دعم روسيا. في سورية، لا تزال روسيا القوة الخارجية الطاغية، وفي أفغانستان، طوّرت روسيا روابطها مع حركة "طالبان" وأمراء الحرب الأقوياء وستُحدد هذه الأطراف فرص التوصّل إلى تسوية تسمح للولايات المتحدة بمغادرة البلد بطريقة مُشرّفة، ولهذا السبب، يضغط وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، باتجاه تنظيم اجتماع لوزراء الخارجية في الأمم المتحدة لمناقشة ملف أفغانستان في المستقبل القريب، على أن يشمل اللقاء روسيا، والصين، والهند، وباكستان، وإيران والولايات المتحدة. لأسباب مشابهة، تتطلب محاولات الإدارة الأميركية إعادة الانضمام إلى اتفاق إيران النووي أو التفاوض على اتفاق جديد استئناف التواصل مع روسيا، علماً أن العلاقات الوثيقة بين موسكو وطهران كانت محورية لعقد الاتفاق الأصلي، وإذا أرادت الإدارة الأميركية أن تقنع الصين بالمشاركة في مسائل مثل الاستقرار الاستراتيجي، وهي خطوة لطالما رفضتها بكين، فيجب أن تطلب المساعدة من القوى العظمى النووية الأخرى في العالم. في الوقت نفسه، ستدرك الإدارة الأميركية أن مجابهة العدائية الروسية ليست مقاربة مباشرة بقدر ما كانت تتصور، بل يجب أن تجد التوازن المناسب بين هذه الجهود وأهداف الإدارة الأخرى، وفي ما يخص مشروع "نورد ستريم 2" مثلاً، قد يجازف فرض عقوبات جديدة بضغطٍ من الكونغرس على الشركات الأوروبية المشارِكة في مشروع خط الأنابيب، بما في ذلك حلفاء أساسيون مثل ألمانيا، بتهديد الأولويات التي أعلنها بايدن حول إعادة بناء العلاقات العابرة للأطلسي بعد أربع سنوات من السياسات المدمّرة في عهد ترامب. كذلك، قد يؤدي الوعد بتنسيق العقوبات المعادية لروسيا مع الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف التدابير المعتمدة بما يخالف رغبات الإدارة الأميركية، إذ من المستبعد أن تتوصل الدول الأعضاء إلى إجماع معيّن لدعم تكثيف العقوبات. الأهم من ذلك هو أن بناء تحالف لاحتواء الصين قد يجعل السياسة المعادية لروسيا أقل صرامة مما هي عليه، ومن غير المنطقي أن تُعاقَب الهند على شراء النظام الدفاعي الجوي المتقدم "إس-400" من روسيا في حين تحاول الإدارة الأميركية التعاون معها لكبح مسار الصين، وستكون المجازفة بتصعيد الصراع السيبراني مع روسيا بسبب اختراق شركة "سولار ويندز" محاولة مريبة في أفضل الأحوال لأن هذه العملية ستستنزف الوقت والطاقة وتُبعِد التركيز عن الصين. هذه الاعتبارات قد تدفع الإدارة الأميركية إلى الاقتناع بضرورة التوفيق بين سياساتها تجاه روسيا والصين. في النهاية، قد تُحقق الإدارة الأميركية الأهداف التي تسعى إليها منذ البداية، فلا تعيد ضبط العلاقات الثنائية ولا تُصعّد المواجهة مع روسيا، لكن ذلك سيتحقق لأن سياستها الفعلية ستصبح أقل صرامة وسيزيد تواصلها مع روسيا بما يفوق الشعارات التي تطلقها في خطاباتها. قد يُمهّد هذا الوضع لكبح التدهور الخطير الذي شهدته العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة من دون إضعاف أي مصالح حيوية، ويمكن اعتبار هذا الاستقرار المستجد نجاحاً كبيراً في سجل بايدن، حتى لو لم يكن هذا الهدف معلناً في الوقت الراهن.
مشاركة :