د. عبدالله الغذامي يكتب: حدود العلم / حدود العقل

  • 3/27/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اشتهر هوكينج بدعوته للبحث عن (نظرية كل شيء)، وهي النظرية التي تجيب عن الأسئلة الكبرى عن الوجود، ولو تحقق لنا أن نصل لجواب عن لماذا نحن موجودون ولماذا الكون موجود معنا؟ فحينها سنحقق الانتصار الأعظم للعقل البشري، ويجب في هذه النظرية أن تكون مفهومة للكل، للفيلسوف والعالم والعامي، وحينها تصل البشرية إلى مبتغاها الأعلى في فهم وجودها ومعناه، غير أن هوكينج يكتشف عجز الفلسفة عن تحقيق هذا المبتغى، ومن هنا، فهو يخرجها بحكمه عليها بالموت، وسيبقى له العلم دون الرديف الفلسفي للعلم، وهنا لن تكون النظرية نظرية كل شيء بعد استبعاد الفيلسوف عن المعادلة، ولكننا لن نعدم حيلة لإعادة الفلسفة رغم استبعاد هوكينج لها، وذلك من باب العقل بما أن العقل هو منتج العلم البشري، وكذلك هو منتج الفلسفة، وسنقول تبعاً لذلك: إن العقل البشري هو المؤهل لتحقيق نظرية كل شيء كما طمح لها هوكينج، غير أن العقل سيجد نفسه في مأزق بين المقدرة والعجز، فميزة العقل الأولى هي في قدرته على كشف عجزه كما يقول الغزالي، ويتابعه كانط حين أكد أن العقل يستطيع إدراك المفاهيم الثلاثة الكبرى (الله، الخلود، الإرادة الحرة)، لكنه يعجز عن البرهنة عليها. والعقل نفسه موضع حيرة بين دلالات المخ والذهن، وفي معجم أكسفورد فالعقل جزء في الجسم، ولكن أين وفي أي مكان في الجسم، وهل هناك فارق بين المخ والذهن والعقل، وما صلة كل واحد منها بالشعور وتوليد الوعي؟ وفي هذه الحيرة المفاهيمية سنجد الجرجاني يعرف العقل بأنه (جوهر مجرد عن المادة مقارن لها في فعله، وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله: أنا). فالعقل هنا هو الأنا الناطقة المفكرة، وهذه الأنا لا تتمثل إلا عبر الزمان والمكان، وهذا يجعل الأنا جوهراً حياً ويمكن الأنا من تمثل وجودها عبر اللغة، وهذا يجعلها كائناً يصنع المعاني بنفسه ويستقبلها من غيره، مما يحفز دوافع التفسير والتأويل ليحول المفهومات إلى معقولات وتصورات. وهنا نتفهم حيرة إيمانويل كانط حين وجد نفسه أمام أسئلة كبرى يدركها كمتصورات، لكنها تتصعب عليه حين يطلب لها برهنة تقربها إليه، وذلك لأن تحقق الفهم الذاتي مشروط بشروط الزمان والمكان وبحدود اللغة وقدراتها على تشخيص التصور، وهذا ما أوجزه فرانسيس كولينز، حيث لجأ للغة أخرى غير اللغة التقليدية، فرأى أن الخريطة الجينية والبشرية والـDNA هي لغة الإله التي يخاطبنا بها، ومن فهم منا الرسالة هذه وفك شفراتها فسيعرف مرسلها، وذلك لأن الله متعالٍ على الزمان والمكان وسابق عليهما، كما أنه متعالٍ على قوانين الطبيعة التي من شأنها أن تتحكم بالإنسان، ولكنها لا تترقى للتحكم بالخالق نفسه. وهنا فإننا لا بد أن نبحث عن طرق غير العقل المجرد لنبحث عن سر الخليقة. وكلما أدرك العقل عجزه، فقد شارف حدوده التي يحتاج معها لاجتراح سبيل أو سبل أخرى تساعده على معرفة الحقيقة. على أن حيرة كانط حول توقف العقل دون حقيقة الله والخلود والإرادة الحرة لا تقف عنده، بل نجدها أيضاً عند آينشتاين الذي يقول: إن عقولنا الصغيرة لا تستطيع إدراك خالق هذا الكون، مما يجعلها مشكلةً للعقل والعلم معاً، وهذا يحيلنا إلى داروين ومقولته: إن هذا الوجود العظيم بدقته وانضباطه من المحال أن يكون وليد مصادفة عمياء، وهذا يزيد من حيرة العلم وحيرة العقل معاً مما جعل كانط يبحث عن طريق أخرى للبرهنة، ولعلَّ هذه الطريق هي ما نجده عند روسو بقوله: إن عقلي يدلني على فطرتي وفطرتي توصلني للإيمان. ومقولة روسو هي النموذج الأمثل الذي يجمع بين العقل والوجدان مشتركين معاً في تصور منهجية عقلانية تعين على اكتشاف سبيل الفهم، وهذا ما اقترحت له منهجية (الاستدلال العقلي الوجداني) في كتابي القلب المؤمن، الفصل الثاني، ودون ذلك سنقع في حيرة تماثل حيرة جون ليزلي الفيلسوف الذي تمنى لو كان روائياً وليس فيلسوفاً، مشيراً إلى أن الفلسفة تقف حائرة دون الوصول للأجوبة العميقة عن الوجود. وإن عم في الثقافة تصور أن العاطفة أقل درجة من العقل، فإن هذا الافتراض افتراض ثقافي وليس حقيقة واقعية وقصة هذا الافتراض بدأت مع أفلاطون حين قلل من شأن كل نتاج عاطفي والفن عنده يقع بدرجة ثالثة من الوجود، حيث تبدأ الصور واقعية، كما نرى شجرة مثلاً ثم تتحول لمتصور ذهني يختزنه الذهن كوجود ذهني لشجرة، ثم يتولى الفن رسم الشجرة ليخرجها من مكانها الذهني إلى وجود مرسوم، وكذلك يفعل الشاعر مع صوره الشعرية، وهي المحاكاة، وتأتي كدرجة ثالثة تجعل الشاعر هائماً ولذا لا تحتاج إليه جمهورية أفلاطون الموغلة في عقلانيتها والمضادة للوجدان، لكن أرسطو يعيد للفنون قيمتها ويجعل المحاكاة قيمة إبداعية أولية وليست تقليد التقليد كما هي عند أفلاطون، وهنا يقترب أرسطو من الجمع بين العقل والوجدان في تفهم وتذوق معاني الوجود. وهذا تصور صنع مجداً عظيماً للفن ونظريات الفنون تغذت على موروث أرسطو في مفاهيم البويطيقا، ولكننا لن نعدم مؤثرات أفلاطون في التقليل من شأن الوجدان والفن وتعلية مقام العقل الذي كان كانط أهم كاشفي حدود العقل وقبله الغزالي الذي جعل ميزة العقل في قدرته على كشف عجزه، وإذا كشف عجزه بحث عن تسديد طريقه لفهم الحياة عبر طرق أُخَرَ تعينه على التعرف على ألغاز الوجود، ومن هنا جاء العلم الطبيعي ليعين على التعرف على الطبيعة بيولوجياً وفيزيائياً مصحوباً بعلم الكونيات، وهذه أجابت وتجيب عن أسئلة مهمة وعميقة للتعرف على أسرار الكون، غير أن العلم يظل أحد منجزات العقل الذي أنتج الفلسفة وينتج المعرفة العلمية كذلك، وإن كان للعقل حدود، فإن لكل منتجاته حدوداً كذلك بما في ذلك العلم وعجزه عن الإجابة عن أسباب الوجود وغاياتها وعما بعد الموت وما قد يحدث تلو ذلك، لأن العقل عاجز عن برهنة ذلك، ولذا نحتاج للاستعانة بالفطرة كما فعل روسو أو قراءة لغة الإله، كما فعل كولينز بوصف الخريطة الجينية والـDNA بأنها لغة يخاطبنا عبرها الخالق الذي وضع لنا السر في داخل كل واحد منا وسيساعده الكشف العلمي على التعرف على جزئيات الحدث وخصائصه ووظائفه وهذا دليل قياسي عملي يتحول إلى قياس منطقي يساعد على وضع فرضيات منطقية بأن الخالق لم يخلقنا عبثاً وأن وجودنا مكتنز بالمعنى والغرضية، ولن تستقيم الغرضية إن كانت تنتهي عند حد معين من العمر يفنى المرء بعدها ويتلاشى، لكن وكما جاء الإنسان وفي جسده خارطة جينية هي لغة مكتوبة بشفرات يستطيع العلم فكها للقراءة وسيبقى تأويل النص وتفسير شفراته مشروعاً للعقل لكي يفهم الرسالة وهنا سيدلنا عقلنا على فطرتنا التي هي شفرتنا الأولى والأساسية وهذه الفطرة ستدلنا على الإيمان بمرسل الرسالة، ومن ثم نستطيع ردم حدود العلم وحدود العقل حين نتمكن من تفسير شفرات الرسالة المخبوءة فينا. وأختم بكلمة الغزالي في خلاصات رحلته المعرفية: (ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات). وهذه شهادة يخلص إليها كل من أشغله عقله باحثاً عن أجوبة عميقة، يقف العقل فيها عند حدود لا يستطيع عبورها وحدث ذلك نفسه لكانط ولروسو، كما رأينا.

مشاركة :