أدب الرسائل.. ألقُ خصوصيةِ الذات

  • 3/27/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في الزمن الراهن لن يحول بينك وبين وصل من تريد سوى لمسة أُنمُلة على شاشة ذكية، والخيار لك في التراسل بين الكلمات والصور والملصقات الإلكترونية التي يجود بها علينا مبدعو التقنيات، وبين عبارة تخصّك -مهما كانت بسيطةً- على ذات الأجهزة، تلك الخصوصية التي يبحث عنها «المرسل إليه» والتي أكسبت أدب الرسائل أهميته قديمًا وحديثًا، الخصوصية الناضحة من ذات الكاتب والتي تضفي على الكلمات ألقًا لا يتحقق بغيرها. في الرسائل المتبادلة بين الروائيّيْن المغربيين محـمد شكري ومـحمد برادة نتحصّل على الكثير من العزاءات، ليس من أحدهما للآخر فقط بل لنا معشر الكُتّاب، فهذا برّادة يبثّ همّه إلى شكري: «أشياء كثيرة أكتبها بالخيال أو قبيل النوم، دفعة واحدة بلا ألفاظ، أو بألفاظ جدّ مكثّفة تُعبّر مرة واحدة عن «كتلة» الإحساس أو تعاريج الفكرة، تتنامى مشاريع الكتابة إلا أنّ شيئاً ما يُرجئها». هذا مجتزأ يشي بالألم المخبوء في صدر الكتابة، فيأتيه الرد من كاتب يعي جيّداً مغبّة المغامرة بالأفكار وجعلها وديعة في الخيال، إذ يقول شكري: «أنت ترى إنه مزيج يهدّئ من حدة التوتر. المهم أن تكون في ذهنك زهورٌ لك حتى لو لم تعرف أسماءها، هذا معنى قولك في رسالتك أشياء كثيرة أكتبها بالخيال» هذه الكلمات التي أنقذت تفلّتات الحلم من الوهم وأحالتها إلى حديقة تضاعف إمكانية البقاء، في الزرع وفي شذاه. تؤتي تلك الكلمات غرضها الآنيّ لبرّادة فتحفّزه لِزخّات كتابية كان يصبو إليها عبر كتابة الرسائل، فكتب: «أشياء كثيرة أريد أن أحدّثك عنها، لأنّ كتابة الرسائل تعوّضني، على الأقل عن حرمانٍ من الكتابة، خاصة حينما نكتب لمن نعرف أنّه يدرك ما وراء ألفاظنا» يمكننا تتبّع أثر أدب الرسائل في مستويات تتعدّى الشخصي والفردي، لتصبح أداة في يد المؤسسات ومجموعات الضغط في المجتمعات. كتب «جيم مورِل» محرر كتاب رسائل السلام في مقدّمته: «لقد آمنت بالتأثير العظيم للرسائل، فعندما شكّلنا نحن أصدقاء الصحفي الرهينة «جون ماكارثي» أثناء احتجازه في لبنان في تسعينيات القرن الماضي مجموعة ضغط عبر مراسلة الساسة -في المملكة المتحدة والشرق الأوسط- لإيجاد مخارج أخرى للخلافات السياسية بعيداً عن المدنيين، نتج عن ذلك تحرير الرهائن الذين كان من ضمنهم صديقنا، وقد صرّح لنا المسؤولون فيما بعد بالدور الفاعل لرسائلنا التي كانت بالآلاف، في تغيير مجرى الأحداث». هناك من يعتقد أنّ مكاتبات العلماء نصوص من الحُجج والفرضيات تفتقر الرهافة، ولتبديد ذلك فلنقرأ مراسلات سيغموند فرويد وصديقه كارل يونغ، إنّ فيها من النفحات الإنسانية والتجليات الأدبية ما يقودنا إلى ذات الأثر؛ الألق الذي تستمده الرسائل من خصوصية كاتبها. سنجد في فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي تنازلًا عن أستاذيته في غير موضع مع صديقه وتلميذه، متطلّعاً إلى نتاج العالِم المنشق عنه في المدرسة الأصل، فهو لم يتوانَ في إبداء الإعجاب والمدح ليونغ، حتى كتب في رسالة: «لم أستطع أن أصبر فحصلتُ على دراساتك في التداعي التشخيصي قبل أن ترسلها»، وفي رسالة أخرى يكتب بانكسار: «ليس لدي عملٌ مثير للاهتمام ونتائج مذهلة مثلك لأتحدّث عنها؛ أنا متعب أعدّ الأيام». دفع ذلك يونغ للشفافية والمصارحة التي لا تخلو من أثر كلمات فرويد، فلم يتحرّج من الاعتراف لصديقه المعلّم بخلجات نفسه عندما كتب: «الشعور بالنقص يتغلب عليّ غالبًا عندما أقارن نفسي بك، وعليّ تعويضه دائمًا بزيادة المنافسة. كان عليّ أن أثبت لنفسي أنني قادر على جني المال لأتخلّص من فكرة عدم القدرة على النجاح». إنّ أدب الرسائل في شقه الشخصي قائم على الوجدان ومُعتراه، ومهما تحوّلنا بين الوسائل الحديثة المرقمنة في التراسل، يظلّ أثر الكلمة الشخصية متفوّقا على ما سواها من المنمّق والمصنوع، ذلك أنّ المُضمر فيها يجد طريقه إلى مريده ويسدّ حاجته في نفسه.

مشاركة :