أين السياسي .. أين المثقف في مصر؟

  • 9/17/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

السؤال المستمر في أوقات الأزمات الكبرى للدولة والمجتمع، وفى مراحل الانتقال السياسي، أين المثقف؟ يغيب سؤال أين السياسي؟ ولماذا لم يظهر إلا نادراً منذ 23 يوليو 1952؟ لماذا لا تهتم السلطة السياسية الحاكمة بسؤال المثقف ودوره، والثقافة ومكانتها في حياتنا، إلا من خلال بعض الأداء الوظيفي الاستعراضي في قلب المشاهد الديكورية المصاحبة لطقوس أبهة الحكم وهيبته الشكلية؟! يمكن القول إن التكنوقراطي والبيروقراطي الحديث، ولدَّا مع البعثات، ليكونا ضمن عملية بناء الدولة، وتأسيس أجهزتها الإدارية الجديدة، إلا أن البعثات لم تكن منتجة فقط للتكوين العلمي والتقني والإداري للمبعوثين، وإنما أسهمت في إضفاء بعض التكوين الثقافي، والانفتاح على أنساق من القيم والسلوك الاجتماعي والرؤى الجديدة، وهو ما جعل بعضهم يحمل في أعطافه صفة المثقف، والدمج بينها وبين الطابع الوظيفي لتخصصه المهني. المثقف ولد في أعقاب التطور من وظيفة الفقيه الديني المتخصص في العلوم الإسلامية الشرعية، والكاتب - وفق خالد زيادة- من خلال البعثات في العلوم الإنسانية، وعلى رأسها القانون الوضعي الحديث، الذي كان أحد أبرز المداخل للتحديث المادي والسلطوي للقيم والحداثة الفكرية في مجال الانتقال من منظومات القانون التقليدي، الشرعي والعرفي، ونظام المكانة إلى نظام العقد والقواعد والمراكز القانونية الحديثة، وما تنطوى عليه من قواعد للسلوك الاجتماعي والاقتصادي في إطار العملية التاريخية لدمج الاقتصاد في إطار بنية الرأسمالية الدولية، لا سيما مع تجارة القطن. من خلال الهندسة القانونية والاجتماعية، والمدارس الحديثة المدنية، ولدّ المثقف الحديث، كطرف فاعل في بناء الدولة ومؤسساتها، كما سبق أن أشرنا. من هنا، كان دوره مزدوجاً كأحد بناتها ومديريها، وفى إشاعة الوعى النقدي وإنتاج الأفكار الجديدة، ومحاولة أقلمتها في بنية الثقافة المصرية، من ناحية أخرى، لعب دوراً بارزاً في الدعوة للاستقلال الوطني، وفى القراءة النقدية للتراث وتقديم رؤى مغايرة لما استقر عليه العقل النقلي التقليدي وموروثه وآلياته الذهنية والتأويلية للتراث. استمر هذا الدور في ظل ثورة يوليو، وتعرض بعض المثقفين للسجن والاعتقال والتدجين، في ظل النزعة التسلطية، وحاول بعضهم، كالسادات ومبارك، اعتقال الدور النقدي للمثقف، في إطار الموالاة للحكم والحاكم، ونجحوا مع بعضهم، وفشلوا مع بعضهم الآخر، وتم تحويل وزارة الثقافة وهيئاتها إلى أطر احتوائية لبعضهم، وإلى تحويل وظائف أجهزتها نحو الأداء الاستعراضي حول العاصمة، وتم خنق الثقافة المصرية واختزالها في احتواء بعض المثقفين الموالين، وفى الاهتمام بتقديم السلع الثقافية إلى النخبة. إلا أن المثقف النقدي، اعتصم بدوره ورسالته في نقد الدولة والحكم والنخبة، والمجتمع، سعياً وراء التجديد والتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي، وهو ما ظهر جلياً في عهدي السادات ومبارك، من هنا، لعب قلة من المثقفين هذا الدور باقتدار ورصانة وعمق، وذهب بعضهم من الأجيال الجديدة، وهم قلة، إلى نشر إبداعاتهم في دور نشر خاصة. قام بعض من هذه القلة بدور رائد في تمهيد الأرض للحدث الانتفاضي في 25 يناير، وفى انتفاضة نقدية صارمة لمحاولات تغيير نمط الحياة والفكر الحديث. في أعقاب أحداث 30 يونيو، يبدو أن ثمة فجوة تتسع بين المثقف والسياسة، على نحو أدى إلى إعادة إنتاج إدراك سلبي للمثقف والثقافة، يتمثل في أنهم هامشيون، ومن ثم، النظرة إلى المثقف ودوره النقدي بوصفه مثيراً للاضطراب، ومنتجاً للشكوك والغليان الاجتماعي ضد السلطة. هذا التوجه، هو الذي جعل القلة ذات الوزن تدير ظهرها لما يجري في البلاد، ولا تأبه بقضايا التحول الديمقراطي والسياسي، وغياب الرؤى، على نحو يؤدى إلى شروخ في نظام الشرعية السياسية بلا نزاع. غياب السياسي، يعود إلى أن التسلطية وثقافاتها وقيمها السياسية شبه القمعية، ومؤسساتها لا تنتج السياسة والسياسيين، وإنما تعتمد على الأداء البيروقراطي والتكنوقراطي، ولأن موت السياسة طيلة أكثر من ستة عقود، أدى إلى التخبط والفشل المستمر، وعدم معالجة المشكلات والأزمات الهيكلية من جذورها، لصالح المواءمات واحتواء الأزمات، والتخفيف من احتقاناتها فقط، ثم تتفجر! غياب الرؤية السياسية، هي ابنة اللا سياسة وموتها المستمر، ومن ثم، ظهر خلال المراحل الانتقالية، أن النخبة الحاكمة، والساعين إلى الانخراط فيها، يعانون من ضعف التكوين الاحترافي، ومحدودية الثقافة، بل غاب السياسي عن حياتنا، لأن السياسي ابن التعددية والحريات العامة والشخصية، والتنافس والصراع السلمي على السلطة، من خلال الشفافية الديمقراطية وقيمها السياسية وتقاليدها وآلياتها الحقيقية. السياسي ابن السياسة، ولا سياسة بلا مثقف، ولا تطور للدولة والمجتمع دون ثقافة رفيعة وشعبية، لأن الثقافة في قلب الظواهر والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقف وراء عديد الاختلالات البنيوية في حياتنا وقيمنا وسلوكنا، وأنماط تفكيرنا اللا علمي في الغالب الأعم، ومن ثم، لا سياسة ولا تطور دون الثقافة والمثقفين.

مشاركة :