قبل عدد من السنوات الماضية كان بعض رجال الدين المشهورين بنشر فتاوى التكفيرية والتحريضية – مع احترامنا للاختلاف والتعددية الفقهية لكن بعضها لا يمت بصلة للواقع ولا للبعد الإنساني – يرى أن أي مخالفة لتلك الفتاوى يكون نوعًا من الليبرالية والتغريب «الملعونين» بزعمه، وكان يفسّق – إن لم يكفّر – من يدعو لخلاف فتاواه، ويسعى لتأليب السلطات ضد مخالفيه، بزعم أنهم يحاولون الإضرار بالمجتمع وتضييع القيم الدينية وتمييع الهوية الإسلامية. وتمر الأوقات والسنين لنجد بأن بعضًا من تلك الفتاوى أصبح منبوذًا لانتشار الوعي، أو أصبح مثارًا للتندر والسخرية لتغير واقع الحال. وليس ببعيد عنا فتاوى تحريم تدريس المرأة علوم الجغرافيا والجيولوجيا، بل وتعليم المرأة يجب أن يقتصر على القرآن الكريم فقط، وفتاوى حرمة تدريس اللغة الإنجليزية أو تحريم لبس المرأة «حمالة الصدر» وتحريم قيادة المرأة للسيارة وتحريم لعب كرة القدم، وكثير منها ليس هنا محل لذكر كل تلك التفاصيل التي ساهمت في تضيق الخناق على المجتمع السعودي. هناك عدد من الأسئلة تطرح نفسها ومنها: لماذا يصر رجل الدين إقحام نفسه في كل زوايا حياة الإنسان البسيط؟، بدون دراسة أبعاد ونواحي الفتوى التي يقدمها، بل يكتفي برؤيته الشخصية الضيقة المبنية على بيئته بسيطة وعلمه المحدود، وهذا ما جعل المجتمع في الفترة الماضية بأن ينساق لهم في تضيق الأفق، مما ترتب عليه أثر مدمر على مصداقية أي رجل دين يملك رؤية منفتحة. الأصل في الأمور الإباحة والمحرمات محدودة في كتاب الله، فلماذا يفترضون أن كل مستحدث في الحياة هو فرع عن هذه المحرمات؟، لماذا يتم نعت كل محاولة لتحسين جودة الحياة أنها تغريب وليبرالية ملعونة؟. لست هنا بصدد الدفاع عن الليبرالية، فهذا حديث له قومه المختصون به من دارسي هذا العلم، لكن الليبرالية في أساسها هي ضمان حرية الفرد بدون أن يسيطر عليها الآخرون، وكذلك ضمان حريته في القول أو السلوك بما لا يكون فيه ضرر على الآخرين. فكيف يتم نعت هذا الفعل الذي يحترم إنسانية وكرامة الإنسان، إنه أمر «ملعون»، علمًا أن الحرية هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، إذ يعتمد أساس التكليف الشرعي على حرية القرار مع المسؤولية عنه، كما أن سلب المبادئ الأساسية في مفاهيم الحرية تفقد البعض الأهلية، وذلك إما بسبب فقد الحرية كالعبيد أو فقد العقل والقدرة على حسن التفكير كالسفيه أو المجنون. هناك موقف عظيم منذ بدء الخليقة، وذلك حينما كان آدم أبو الجنس البشري في الجنة، وحرم الله عليه الشجرة، فلم يضع له حواجز كي يبتعد عنها، بل تركها متاحة بين يديه واكتفى بأن بيّن له حكمها، ألا يدل هذا على مقدار الاحترام الذي وضعه رب العزة والجلالة لاختيار الإنسان وقراراته. آدم رغم تعلمه أسماء الأشياء لم يكن متهيئًا للخلافة على الأرض إلا بعدما أدرك قيمة ومسؤولية قراره واختياره باختبار الشجرة، إذن الحرية ليست أمرًا ملعونًا في ذاتها، بل هي مطلب شرعي ليهتدي من اهتدى عن بينة ويضل من يختار الضلال أيضًا عن بينة. سؤال مهم آخر لا ينبغي إغفاله، حول بعض الأشخاص الذين خالفوا تلك الفتاوى في زمن سابق، وتم عقابهم إما معنويًا بنبذ المجتمع لهم وإقصاؤهم ونعتهم بأقذع النعوت، أو تم عقابهم ماديًا باستعداء السلطات أو ذويهم عليهم، والآن وقد تغيرت تلك الفتاوى والأفكار التي حُشرت في مجال الدين حشرًا، ما هو موقفنا منهم؟ وكيف يمكن رد الاعتبار لهم أو تعويضهم على أفكار كانت مرفوضة وهي اليوم جزء من منهج الحياة الذي تبنته «رؤية 2030» ويطرحه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بشكل دائم على شكل مشروعات تنموية تواكب التطور الحضاري للمرحلة المقبلة؟.
مشاركة :