مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السبعين هذه الأيام في البيت الزجاجي القائم على نهر الهدسون في مدينة نيويورك الأميركية، يتساءل الكثيرون هل من فائدة بعد لهذه الهيئة الأممية أم أنها قد بلغت من السنين عتيًا، وعليه فقد آن لها أن تستريح وأن يعرف العالم نوعًا جديدًا من المؤسسات الكونية الأكثر فعالية في القرن الحادي والعشرين؟ بعد سبعة عقود على نشوء وارتقاء الأمم المتحدة، يجد العالم نفسه منقسمًا إزاء مستقبلها إلى فريقين؛ الأول ربما عبر عنه ذات مرة أحد أساطين المحافظين الجدد جون بولتون الذي شغل لاحقًا منصب سفير أميركا لدى المنظمة، عندما قال متهكمًا «إنك لو أزلت عشرة طوابق من هذا المبنى، فلن يتغير شيء داخلها»، ما يعني أن عملها ربما بات عديم الجدوى أو الفاعلية. بينما الفريق الآخر يرى أنه يمكن لبعض الإصلاحات أن تضع قاطرة «بيت الشعوب» على المسار القويم، وعليه إذا أردنا للأمم المتحدة البقاء والاستمرارية يجب أن ندعمها، وأن نؤمن برسالتها، بل أن نقاتل من أجلها، حتى لو لم تكن المؤسسة المثالية، إذ تبقى مصدرًا ممتازًا للأفكار. في صيف عام 1945 كان الآباء المؤسسون لـ«عصبة الأمم المتحدة» الأب الشرعي لـ«الأمم المتحدة» يستلهمون روح المفكر الفرنسي الأشهر جان جاك روسو، التي بثها في البشرية من خلال مؤلفه الخالد في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي. كانت فكرة روسو الأصلية تتمحور حول حتمية إيجاد كيان مجتمعي يدافع عن كل عضو فيه، وعن مناعته، وأن يحميه بكل ما أوتي ذلك المجتمع من قوة. وعليه فقد تعهدت المؤسسة الوليدة بأن تدفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن تعمل على رفع مستوى الحياة، وأن تساعد في نشر السلام، والخلاصة أن تجعل العالم مكانًا أفضل. هل تم إدراك هذه الأهداف النبيلة أم أن إخفاقات المؤسسة الدولية أكبر وأوسع من أن تتضمنها سطور قليلة؟ كثيرًا ما تندر محللون سياسيون من فئات معتبرة فكريًا بالقول إن «قرارات الأمم المتحدة ربما لا تساوي في أهميتها الحبر المكتوبة به»، غير أن تصريحات بعينها صدرت عن الأمين العام الأسبق للهيئة، الدكتور بطرس غالي قبل عام أو أزيد قليلاً تؤكد بالفعل على أن «الخرق ربما اتسع على الراتق». أكثر من ذلك يقر الدبلوماسي المصري والأفريقي الأشهر بأن «خطئي أنني لم أفهم هذا الأمر بسرعة»، ولهذا فإنه «لا يوجد سبب يمنع من إحياء أمم متحدة جديدة من وسط الرماد». والشاهد أن أحدث الفواجع الإنسانية عربيًا وأوروبيًا التي باتت تتمثل في أزمة المهاجرين واللاجئين من الدول العربية خاصة أثبتت فشل الأمم المتحدة في تضميد الجراح الثخينة في الجسد الإنساني، وهو فشل يذكرنا بالكثير من المآسي التي لا تزال قائمة في عالمنا العربي، منذ زمن تقسيم فلسطين، مرورًا بغزو العراق، وصراعات سوريا، ومآسي أفغانستان، ومسلمي الروهينغيا، ومسيحيي الشرق الأوسط، وفتنة جنوب السودان، والقائمة طويلة للأسف. أفضل من تحدث عن مأساة الوضع الحالي للهيئة بشكلها المعاصر، البروفسور فرانسيس فوكاياما، الذي ذهب إلى أن مشكلة الأمم المتحدة الحقيقية تنشأ من أن عضويتها مستندة إلى السيادة الرسمية، بدلا من الاستناد إلى تعريف حقيقي للعدالة. هل بدأت مفاصل المؤسسة التي نحن بصددها في التفكك ولن يقدر لها أن تعيش سبعة عقود أخرى؟ الناظر إلى الساحة الدولية يرى أن هناك إرهاصات حقيقية في هذا الإطار، منها على سبيل المثال تجمع دول البريكس، أو منظمة شنغهاي، وربما الاتحاد الأوروآسيوي، بمعنى أن هناك عالمًا جديدًا يتشكل، يتجاوز الاحتياجات التقليدية التي عرفها في نهاية الحرب العالمية الثانية ومولد عصبة الأمم. وضع البيض كله في سلة منظمة كونية واحدة، قد يكون صيغة جيدة للاستبداد، سواء امتلكت هذه المنظمة قوة حقيقية، أو باتت عديمة الفاعلية، وعليه فربما حان الوقت ليعرف العالم طريقة لتعددية من المنظمات الدولية الأصغر حجمًا، والأرشق خطوة، والأكثر قوة، والأصدق في حجتها الأدبية والأخلاقية، بما يلائم تحديات ما بعد النظام العالمي الجديد، ولا مانع في هذا وذاك، بأن تبقى الأمم المتحدة منتدى فكريا للأمم والشعوب، في عالم لا يزال يطرح أسئلة ملحة عن العدالة والحرية، ويهرب إلى الموت في قوارب، من دون جواب واضح حتى الساعة.
مشاركة :