كلها مصائب، وكلها قضاء وقدر، لكننا نفرق بين المصائب التي لا يتسبب المجتمع بحدوثها، وليس لأحد يد في وقوعها، وبين تلك المصائب التي خرجت من رحم المجتمع نفسه وكانت يد الإنسان هي العامل الأول في تلك المصيبة.. في الوقت الذي نحاول فيه تجميع كلمات العزاء والمواساة في حادثة "سقوط الرافعة في الحرم المكي" سمعنا وشاهدنا ضبط خلية إرهابية، إن لم تكن وئدت في مهدها لكان أثرها مصيبة أخرى ونفوساً تزهق، وممتلكات تدمر، لكن لطف الله ثم يقظة رجال الأمن حالت دون تحقيق مراد المتربصين والعابثين بأمن هذا الوطن، فحادثة سقوط الرافعة على رؤوس المصلين الراكعين الساجدين والطائفين لم تكن غائبة عن علم الله جل وعلا، بل هي بأمره وإرادته، فإن المقادير تجري كما قدرها سبحانه، ولذلك شرع لنا إثر المصيبة أن نقول ("إنا لله وإنا إليه راجعون" قدر الله وما شاء فعل) فتهون في رضاه كل مصيبة وبلاء وكما قيل: وكيف وقد بيَّعتُ نفسي لذي العلا فهان عليه في رضاه المصائب وهنا سيكون حديثي مزدوجًا بين المصيبة التي وقعت خارج سيطرة البشر وبين ذلك النوع من المصائب لا تنفع معه ملامة إذا أدى الإنسان ما عليه من وقاية وأسباب لدفعها، ولكن كما يقال: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ فليس لأحد أن يلقي الملامة على العواصف والرياح والأمطار، فهذه الأمور بيد الله وحده، وهي جند من جنده، فقد عذبت عاد بالريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. ونصر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في غزوة الخندق بالريح التي اقتلعت خيام عدوهم من الأحزاب، وأعمت أعينهم، وردتهم على أعقابهم خاسرين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا. وهذا في حال النظر إلى الحادث من زاوية المصابين والذين قضوا نحبهم، والله نرجو أن يتقبلهم في الشهداء، وأن يجمعهم بالصالحين. وإن الزاوية الأخرى التي ينبغي النظر منها هي زاوية التقصير، والمسؤولية البشرية في الحادث، وهذا ما وجهت به القيادة الحكيمة، وسمعنا قراراتها الرائعة، ونتائج التحقيقات الأولية التي أعلنت، وفي انتظار ما تنتهي إليه، حين يقول القضاء قوله، ويحكم بما يرشده الله إليه. ومهما يكن فالأمر قدر الله على أولئك الذين فاضت أرواحهم وهم في أطهر البقاع على أزكى هيئاتهم، وفي منتهى درجات الأمن التي كانوا يعيشونها، ويستمتعون بها! فلو كان موتهم على تلك الحال دون أي سبب لكان اصطفاء من الله لهم، كيف وقد بُشّر الميتُ بالهدم بالشهادة في غير ما حديث، فتبقى الحادثة عارضا من عوارض القدر التي لم يكن يتوقعها أحد، وإن كان من تقصير على فرضيته فلا يتعدى أشخاصًا، إما أنهم لم يقدروا المسؤولية، أو أنهم عانوا من القصور البشري الذي لا مناص منه. وهذا التقصير لا يمكن أن يعكر الجو على الجهود المضنية، والحرص الكبير من الحكومة الرشيدة، ومن على رأسها، وهو خادم الحرمين الشريفين، أيده الله، وولي عهده، وولي ولي العهد، سدد الله أعمالهما، وكل مسؤول صغر مقامه أو كبر، في خدمة البيتين، ومن زارهما حاجا أو معتمرا، أو زائرا، أو ساكنا، فإن العين لا يمكنها تجاهل ما تراه، ولو كان ما تسمعه الأذن مشوشا، ومرادا منه الحط من قدر تلك الجهود، أو النيل منها، فإن الشمس لا يمكن أن تغطى بغربال. فلحكومتنا الرشيدة منا الدعاء، ولها منا التقدير، ونحن نعلم أن الجهد مبذول، والسعي مشكور، ولا بد من قصور على ما جبل عليه البشر، ومن تقصير يحاسب على إثره المقصر، ويأخذ جزاءه المستحق عليه! لكن كيف بالمصائب الأخرى، فقد توالت علينا مصائب عظيمة وكبيرة ذهب ضحيتها عدد ممن نحتسبهم شهداء دفاعا عن الوطن من الجنود، أو من الأبرياء الذين قادتهم المقادير إلى أماكن وقع عليها اختيار المفسد ليعيث في أرض الله فسادا. وضبط الخلية الأخيرة قد لا تكون الأخيرة، وليست الوحيدة، والتقصير حاصل من الجميع، فالمجتمع كله مسؤول عن نشوء تلك الخلايا ابتداء من البيت فالمدرسة فالمسجد فالشارع والأستاذ والعالم والخطيب والفقيه والجندي والوزير والكل، فكل أحد من هؤلاء عليه واجب إن لم يكن أكثر من واجب، واجب التصدي للأفكار المنحرفة فتلك المصائب التي يسقط بسببها الكثير والكثير سواء في وطننا أو أي بلد من بلاد المسلمين تلك المصائب هي نتيجة أفكار وتعبئة دينية وتكفير جماعي لمؤسسات الدولة، تستقطب صغار السن، الذين يجمعون بين قوة العاطفة، وقلة العلم، وانعدام الصبر، والاندفاع المميت، فأصبح المجاهد في نظرهم هو من يُسقط أكبر عدد في عمليته الانتحارية. إذن كلها مصائب، وكلها قضاء وقدر، لكننا نفرق بين المصائب التي لا يتسبب المجتمع بحدوثها، وليس لأحد يد في وقوعها، وبين تلك المصائب التي خرجت من رحم المجتمع نفسه وكانت يد الإنسان هي العامل الأول في تلك المصيبة، وقد حدثت في أسلافنا مصائب عظيمة من نوع حادثة الحرم يمر عليها التأريخ مرور الكرام، حيث لا علاقة ليد الإنسان فيها ومات في تلك الحوادث أئمة وعلماء بل وصحابة كرام، فتأسفت القلوب ولهجت الألسنة بالاسترجاع والحوقلة وطويت المصيبة، ولكن فرق كبير بينها وبين تلك الوقائع التي سجلها التأريخ وكانت بفعل المسلمين فيما بينهم فقد تسببت بجراحات وشروخات في المجتمع المسلم وصل أثرها وشررها إلى يومنا هذا. إن خير وسيلة نتقي بها المصائب والأقدار التي تباغتنا بغير عمل منا هو اللجوء إلى الله سبحانه، والإحسان إلى الخلق، وربما كنا ضحايا لمصائب كبيرة وعظيمة لم نعلمها دفعها الله عنا بإحسان المملكة للشعوب الإسلامية الأخرى، وفي الأثر "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" وهذا على المستوى العام، وأيضًا على المستوى الشخصي فكم بلاء رُفع، وكم مصيبة صُرفت، ونقمة دُفعت، بسبب إحسان صاحبها إلى الآخرين فالله الله بالإحسان وصنائع المعروف، لكن المصائب التي تأتينا من بني جلدتنا يستهدفون مساجدنا وشوارعنا وبيوتنا بالعبوات الناسفة والمتفجرات المبيدة تلك لا ينفع معها إلا العودة إلى سماحة الإسلام والدعوة إلى أخلاقيات المسلمين في العصور الأولى، وترك التنطّع والتشدد والغلو، ومراقبة مساجدنا ومدارسنا وإعلامنا، ومواقع التواصل الاجتماعي، والتعاون بجدية مع كل من تظهر عليه علامات الغلو، أو لنسميه باسمه الصحيح وهو الخروج على الولاة وشق عصا الطاعة وتفريق الجماعة، والإفساد في الأرض، فمن هذه المنابع تجري أنهار كثير منها ما يسر ومنها ما يضر، وإن لنا موروثًا عظيماً قد غُيّبَ بين ركام المكتبات التي عدلنا عنها إلى آرائنا وفهمنا واختيارنا، الذي قد يكون منطلقًا لمهاجمتنا. حادثة الحرم تنبهنا لفعل الخيرات ولصنائع المعروف، وحادثة الخلايا الإرهابية التي تكتشف مرة بعد مرة، تنبهنا إلى خلل فكري يتلقفه شبابنا ويتبلور في عقولهم حتى يكون أمنية أحدهم أن يفجر مسجدًا أو يقتل جنديًا، فليس لنا حيال تلك الأفكار إلا أفكار أخرى تمحوها وتحل محلها لأن الأمر متعلق بالفراغ الروحي الذي تجده في كل أحد، فالواجب ملء ذلك الفراغ بالفكر الموافق لدين الإسلام وسماحته وسعته وعفوه، وفسح المجال للعقول المنفتحة على الإسلام وفقهياته، وترك التمسك بالآراء الضيقة التي من شأنها إنشاء شباب لا يفكرون إلا بفرض آرائهم عن طريق سلوك المسلك الوعر من التفجيرات والاغتيالات. والله من وراء القصد.
مشاركة :