تقدم الحديث عن التوفيقية التي اختارها أحمد فرديد مع فلسفة هيدغر، لقد سحرته عبارة هيدغر الشاعرية والصارخة في حواره مع «دير شبيغل» الألمانية، وقد اشترط نشره بعد وفاته، حين قال: «هذا العالم لن ينقذه سوى الله». مطالعات فرديد وشروحاته لهيدغر شفهية، واقتباساته سطحية، وبرغم رفعه لمنزلة هيدغر «دينياً» باعتباره من مماثلي المتصوفة الكبار، فإن هيدغر لم يكن كذلك، وفلسفته لم تأتِ بما زعمه فرديد! تأخذ البعض قشور النظريات الفلسفية ويظنّونها هي المحتوى والجوهر لمنهج الفيلسوف، مثل التركيز على «الوجود الحقيقي» مقابل «الوجود الزائف» لدى هيدغر، أو قلق الكائن، أو الصمت، أو عزلة الكوخ، ليقارنوه بكبار المتصوفة كما فعل فرديد. فرديد يقرن هيدغر بالتصوف، مع أن التصوف فيه تذويب للذات وتفتيت لها مقابل المطلق، بينما الفلسفات تعتمد في بحثها على الذات بوصفها أساس التفكير والوعي والحكم. والواقع أن استخدام هيدغر في المجال المتصوف لم يكن من شغل فرديد وحده، بل نعثر لدى مفكر وشاعر عربي ومنظّر معروف بميله نحو الفلسفة الهيدغرية وهو أدونيس منذ كتاب «الحوارات الكاملة 1960 - 1980»، إعادة إنتاج مقولة هيدغر «اللغة بيت الكائن»، وأخذها لتثبيت نظريته بأن اللغة شرط للوجود، واستعملها لغرض توطيد العلاقة بين الشعر والفلسفة، والشعر والوجود، ويضرب أمثلة بفلاسفة منهم هيدغر. لم يوافق أدونيس على حصر التصوّف بالتدين، بل ربما فصل بينهما باعتبار التصوّف فلسفة أكثر من كونها نظرية دينية، ويضرب مثلاً بالنفّري، وابن عربي، وقد صدر عن توجه أدونيس دراستان مهمتان هما «أدونيس والخطاب الصوفي» لخالد بلقاسم، وكتاب «الحقيقة والسراب - قراءة في البعد الصوفي عند أدونيس مرجعاً ودراسة». لم يكتفِ أدونيس بتوظيف هيدغر للتأليف والتوليف، بل رأى في بعض الظواهر الفنية ما يمكن مقارنته بالتصوّف، نتذكر دراسته الشهيرة «الصوفية والسوريالية» التي أثارت سجالاً وتناول أدونيس بالرد عبد القادر الجنابي في كتابه «رسالة مفتوحة إلى أدونيس في الصوفية والسوريالية ومدارس أدبية أخرى». أدونيس حاول طرح ما يمكن تسميته بـ«التصوّف الإنساني» مقابل التصوّف الديني، بما يشبه الفرق بين «الوجودية المؤمنة» لدى كيركغارد مثلاً، مقابل «الوجودية الملحدة» كما لدى سارتر. في كتابه «جاك دريدا عربياً» يقرأ الراحل محمد أحمد البنكي هذا الأثر والتأثير، يقول نقلاً عن علي الشرع: «سئل أدونيس في لقاءٍ أجرته معه (البلاغ) سنة 1973 السؤال التالي: إذن تعتقد أن تأسيس عصر جديد يفترض الانفصال كلياً عن الماضي، وأن التفكيك والتفتيت قاعدة كل إبداع؟! أجاب أدونيس قائلاً: نشوء ثقافة جديدة يفترض نقد الموروث وتفكيكه. وعاد أدونيس للموضوع نفسه ليعالجه تحت عنوان (بيان الحداثة)، ومما جاء عنده في هذا الصدد قوله: إن أعظم ما في الفكر الغربي اليوم هو تفكيك الغرب. هيدغر هو المفكك الأعظم، لهذا أصف هيدغر بأنه غربي الولادة شرقي الأصل والتكوين»! في كتابات علي حرب، وبخاصة في سلسلة «النص والحقيقة» نعثر على هيدغر في تركيبه وتحليله للأفكار وفي نقده لمفهوم الحقيقة لدى العرب وعلاقتها باللغة، ويقترب تدريجياً من ترتيب العلاقة بين الفلسفة والتصوّف لتبلغ الذروة في كتابه «الحب والفناء»، إذ جعل ابن عربي محوراً لدراسة جوهر الحب. هنا نعثر على تواطؤ بين المفكرين الثلاثة فرديد وأدونيس وعلي حرب في تأثرهم الشديد بهيدغر وتوظيفهم له في نظرياتهم، وعلى محاولة التوفيق بين الفلسفة والتصوّف. حتى صادق جلال العظم كتب عن «برغسون والتصوف»، وكتبتُ عن دراسته مقالة بعنوان «طاقة التصوف وإعلان نهاية المعنى». مما قاله العظم: «الحدس الصوفي يكشف لصاحبه ماهيّة الحقيقة الميتافيزيقية المطلقة بصورة مباشرة لا تعتمد على التصوّرات ولا على العقل والأفكار على الإطلاق». إن حضور هيدغر في التفكير الإسلامي والعربي يستحق البحث والدرس، وقد لفت نظري تفسير مهم عن حضور هيدغر لدى المسلمين، طرحه الباحث مشير عون في دراسته «هيدغر والفكر العربي»، يقول: «الفكر العربي هو، في العمق، فكرٌ لاهوتي (أو كلاميّ) تسكنه القضيّة الإلهيّة، وتخترقه جدليّة النقل والعقل، بغضّ النظر عن حالات التباعد التي ولّدتها الاتّجاهات الفلسفيّة العربيّة المعاصرة التي سبق أن أشرنا إليها، في حين أنّ الفكر الهيدغري هو، في الأساس، فكرٌ أُنطولوجي يحرّكه حصراً السعي إلى كشف حقيقة الكون، ويتمحور في الواقع حول علاقة الاختلاف والمواجهة التي تربط بين الكون والكائن بموجب الإقبال الخاصّ بالوجود الأصلي غير الميتافيزيقيّ، وهو الوجود الذي يمتنع هيدغر عن تسميته... وفيما ينكبّ الفكر الهيدغري على إيضاح هذا الاختلاف الأُنطولوجي بغية احتضان تفتّح الكون والكائن والتحقّق من انبثاق حقيقتهما في الزمن، يجهد الفكر العربي من دون كلل في إتمام التوافق المثالي بين ما يأمر به النصّ الديني وما تقتضيه العقلانيّة البشريّة»، هذا يصح على المفكرين العرب، لكن ماذا عن أحمد فرديد وهو إيراني؟! يشرح عون بانتساب النموذجين إلى رؤية «دينية» واحدة. حتى إن ارتبط مفهوم التوفيقية بالتأليف بين الديني والدنيوي، أو بين الحكمة والشريعة كما يعبر ابن رشد، فإن المبالغة في ربط المفاهيم والمناهج بعضها ببعض قد تؤشر أحياناً إلى أحد خللين؛ إما ضعف الفهم والتلقي، أو الاستهتار بالمعرفة موضع التوفيق كما في المجال الفلسفي. لا مقارنة بين بساطة طرح فرديد وبين جهد أدونيس وعلي حرب والعظم، لكن أتيت بهم كأمثلة على توظيف هيدغر من قبل كل مفكر للدفاع عن منهاجه، وبآخر المطاف فإن الفلسفة تتجاوز التسطيح الذي يجنح له البعض حين يعتبرها شذراتٍ عاطفية، أو إبداعاتٍ لغوية، أو لمعات صوفية، إنها أكبر من ذلك بكثير.
مشاركة :