الإنسان ليس بداية ولا هو نهاية، فقبله بدايات نعرف بعضها ويخفى علينا بعضها الآخر، كحال المولود لا يعلم عما قبل مولده، وكحال الكون لا أحد يعلم عما قبل انبثاقه، ولن يكون الإنسان نهاية، لا بمفرده ولا بجنسه، وقد نعلم عمن مات قبلنا، لكننا لن نعلم عمن سيأتي بعدنا، وكذلك هي حال الأفكار والنظريات، وهذه الخاصية البشرية هي ما تجعل العقل عاجزاً عن إدراك كل شيء، وميزته الأهم هي بقدرته على كشف عجزه حسب تعبير الغزالي، غير أننا نظل نتصور عقولنا على أنها أقدر قوانا المعنوية ومهما قلنا عن قدراتنا، فإن الإنسان يظل بحكم معنى همزة الوصل في فعله وفي فكره، ونحن تمدد لجينات أسلافنا، وكذلك هي أفكارنا بوصفها إرثاً متصلاً، ويظل كل واحد منا همزة وصل يؤدي وظيفته بين إنجاز واقعي وبين تمدد مستقبلي بمعنى الاستقبال بصيغته المطلقة التي لا مدى لها ولا حصر، وتظل في سيرورة تتجاوزنا، بينما نقف عند نقطة لا نتجاوزها. ولعلَّ تعريف الجاحظ للقراءة بأنها عقل غيرك تضيفه لعقلك تشرح مفعولية همزة الوصل، فعقلك يستقبل العالم ويضيف لمخزونه ويتطور العقل ويكبر عبر الاستقبال، ثم يشرع بالإرسال، وما تنتجه سيكون إضافة لمن يستقبل عقلك من بعد. على أن الأفكار مثلها مثل العادات، حيث تتحول إلى تقاليد تترسخ كلما تعاقب عليها الزمن وتواتر القول بها، وكلما اشتد التعاقب لفكرة ما أو عادة ما، اشتد معه تواتر تردادها، مما يحولها إلى نسق مترسخ، وكأنه عقيدة طبيعية بسبب مفعول التعاقب والتواتر الذي يمنح الفكرة قدسية متعالية تهيمن على العقل البشري وتصبح جوهر المعقولات، وقد سميت هذه الحال بـ (قانون تاء/ تاء) في كتابي القبيلة والقبائلية، حين تترسخ الأفكار أو العادات بسبب تعاقب الزمن عليها وتواترها بين البشر، والفلسفة ليست ببعيدة عن هذه الحال، وهذا ما أدى إلى تمرد العلوم على الفلسفة وتحررها من حضن الأم، فاستقلت العلوم الطبيعية من البيولوجي والفيزياء والكوسمولوجي. ومنذ استقلت العلوم الطبيعية عن الفلسفة، دخلت في تحول نوعي يمس مسار العلم وأساليب التفكير العلمي، وتغيرت بنية الثورات العلمية كما وصفها توماس كون، ودخلت في دورة من الانزياحات النموذجية paradigm shifts، واستقلت عن التعاقب والتوارث المفاهيمي، ولذا تحدث الاختراقات الكبرى breakthroughs، مما لم يكن يحدث في الفلسفة حين كانت أم العلوم، مما جعل أرسطو تاج الفلسفة اليونانية وهيجل تاج الفلسفة الغربية؛ بمعنى الآباء الذين هم الخلاصات، وظل هذا هو النسق الفلسفي الذي واجهه باشلار بالقطيعة المعرفية، وتصدى له فوكو بمحاولة الخروج عن عباءة هيجل، وزاده ديريدا ثورية بتحديه للتمركز المنطقي وعرى الخطاب الفلسفي التقليدي بتفكيك المركزية، وتتبدى الفلسفة الفرنسية بوصفها الأشد ثورية في مواجهة تقاليد الفلسفة الغربية التي استحوذ عليها الألمان وتحكموا بها بمسارات الفكر الفلسفي، فجاء التحدي الفرنسي ليكون الأشد في مشاغبة النسقية الفلسفية، ولذا يكثر القول بأن باشلار وفوكو وديريدا ليسوا فلاسفة، وهذا نوع من تحفز النسق لمحاربة الطارئ المشاغب لاستقراره. وفي النهاية، فالإنسان بعامة أمره يظل همزة وصل بين سالف له ولاحق عليه، ولكن في البشر عقولاً تتأبى الاستقرار وتجنح لكسر التراتب النسقي، وهذه هي بنية الثورات العلمية حسب مستخلص توماس كون الذي هدم الجدار الفاصل بين العلوم والفلسفة، واتخذ فلسفة العلوم لتكون نظرية في صناعة المفاهيم التي انبنت عليها المعرفة العلمية وتحتاجها المعرفة الفلسفية التي طمح لها باشلار في الإبستيمولوجي وفوكو في حفريات المعرفة وديريدا في التفكيكية، وتجلت عبر النظرية النقدية التي تمثل حالات قطيعة معرفية مع التقاليد الفلسفية وتفتح المنهجيات لفرص التحولات النوعية في البارادايم، وأمثلته تتجلى في مصطلح المابعد، ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية، على أن المابعد ليست مصطلحاً بالمفهوم التقليدي للمصطلح، ولكنها فاعلية ذهنية في نقد الذات وكسر استقرارية المفاهيم والتحرر من قانون تاء/ تاء، الذي ذكرناه آنفاً.
مشاركة :