تواجه صناعة البتروكيماويات في دول الخليج تحديات هائلة تجعلها أمام مفترق طرق مهم خلال الفترة المقبلة، الذي منها الإعداد الجيد والتخطيط السليم للتغلب على هذه المعوِّقات لضمان استمراريتها. أبرز ما يواجه قطاع صناعة البتروكيماويات الخليجية -بحسب مختصين- هو وقوعها ضحية نجاحاتها السابقة وجلوسها في المنطقة المريحة "البتروكيماويات السلعية" وعدم بذل الجهد للانتقال لمنطقة البتروكيماويات المتخصصة. يضاف ذلك إلى نقص المواد اللقيم، تطوير البنية التحتية، ازدحام الموانئ، عدم استقرار الأسواق العالمية، وشح الموارد البشرية المؤهَّلة. وينتظر أن يتجاوز مجموع الطاقات الخليجية من البتروكيماويات والكيماويات 150 مليون طن متري بحلول عام 2015، في وقت تجاوزت فيه الطاقة الإنتاجية لدول الخليج من البتروكيماويات والكيماويات بخلاف الأدوية 125 مليون طن متري في عام 2012. فيما يشكل نصيب دول مجلس التعاون الخليجي 2.5 في المائة من القيمة الإجمالية للإنتاج العالمي من البتروكيماويات والكيماويات التي تتجاوز 3.8 تريليون دولار أمريكي عام 2012. ويرى الأمير عبد العزيز بن سلمان مساعد وزير البترول للثروة المعدنية أنه من المهم لشركات البتروكيماويات الخليجية إحداث قيمة مضافة لإنتاجها عن طريق الاستثمار في الصناعات التحويلية وصولاً إلى المنتجات النهائية وتنويعها. وأشار مساعد وزير البترول خلال مشاركته الأخيرة في المنتدى السنوي الثامن للاتحاد الخليجي للبتروكيماويات والكيماويات "جيبكا" إلى جانب آخر مكمل يتمثل في تطوير مناطق صناعية، ومجمعات بتروكيماوية، كما هو الحاصل في المملكة، كالصناعة التحويلية للمواد المعدنية والحديد، ومشاريع المركبات، والطاقة الشمسية، والبلاستيك، والتغليف، والأجهزة المنزلية، التي تشير بوضوح إلى رغبة حكومات المنطقة في الاستثمار لإيجاد إطار مناسب لتعزيز تكامل العمليات النهائية، وتطوير قاعدة تصنيع مصحوبة بكل أنشطة الدعم اللازمة، بما في ذلك مراكز ومعامل البحث والتطوير. وأضاف "هناك مجال آخر، اكتسب في الآونة الأخيرة أهمية متزايدة، وهو مجال التكامل بين عمليات المصافي والبتروكيماويات من خلال إنشاء مجموعة من المنشآت الصناعية الكبرى في هذا المجال، كاستثمارات "أرامكو السعودية" المشتركة في شركة صدارة للكيميائيات "صدارة" وشركة رابغ للتكرير والبتروكيماويات "بترورابغ". وينبغي تشجيع مثل هذا النوع من التكامل، كونه يمهد الطريق نحو تكامل أكبر، وهو أمر مهم في البحث عن مصادر إضافية لزيادة الطلب على البترول ومنتجاته". ويؤكد الأمير عبد العزيز أن توسيع الصناعات التحويلية وصولاً إلى المنتجات النهائية سيساعد على تحقيق أهداف متعددة تشمل إيجاد وظائف جديدة، وتنويع قاعدة الاقتصاد والصادرات، والحصول على مزيد من القيمة المضافة للاقتصادات المحلية، وتوسيع القاعدة المعرفية لاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، من خلال تطوير القدرة على إنتاج مجموعة كبيرة من المنتجات شديدة التعقيد. ولفت مساعد وزير البترول إلى أن التحدي الأكبر بالنسبة للجميع، حكومات، ومصنّعين، هو كيف نحوّل إمكانات الشباب، ومواهبهم، إلى أصول تؤدي إلى تحقيق فوائد لاقتصاداتهم، ومجتمعاتهم، عوضاً عن تركْهم عبئاً على الاقتصاد ونظم الرعاية الاجتماعية. وببلوغ هذا الهدف يمكن إرساء دورة تعزيز إيجابية تؤدي إلى إيجاد المزيد من الأفراد الذين تتحسن دخولهم، ما سيؤدي إلى وجود مصدر جديد للطلب، وأسواق جديدة للمنتجات النهائية. من جهته قال الدكتور إحسان بوحليقة المختص الاقتصادي لـ "الاقصادية" إن المشكلة الكبيرة في قطاع البتروكيماويات أنه يتمتع بميزة نسبية واضحة في منطقة الخليج، ويضيف "رغم إثباته جدارته باستحواذه على حصة مهمة من الأسواق العالمية، ولكن يبدو أنه وقع ضحية نجاحاته، وذلك من خلال جلوسه في المنطقة المريحة "البتروكيماويات السلعية" وجهوده في الخروج من هذه المنطقة والدخول في منطقة البتروكيماويات المتخصصة Specialized Petrochemical محدود". وبحسب بوحليقة فإن ذلك يعود إلى تحديات حقيقية تقنية، حيث إن البتروكيماويات المتخصصة فيها قيمة مضافة عالية وهامش ربح أكبر والمنافسة أقل، وتتطلب تراخيص بتقنيات متقدمة وهذه التراخيص بيد الشركات الكبيرة ومراكز التطوير والأبحاث المتخصصة الأمر الذي يتطلب بذل الكثير من دول المجلس، الشركات الكبيرة والمراكز البحثية رغم إدراكها لهذه النقطة إلا أنها لم تبذل جهدا استراتيجيا للاستحواذ على شركات تمتلك تقنيات معينة على نطاق واسع. وأردف "الأمر الثاني، أن الشركات لم تنفق ما يكفي من المال على البحث والتطوير، شركات البتروكيماويات أنشأت المصانع وتوجهت للبيع فقط، كما يتطلب الأمر وجود تصور على مستوى دول المجلس أن صناعة البتروكيماويات وتوابعها ومراحلها المختلفة هي صناعة حرجة الأهمية بالنسبة لهم وأن تحقق فيها ميزة تنافسية كبيرة وهذا لا يأتي إلا من خلال صياغة سياسات على المستوى الحكومي، من خلال منح إعانات تتعلق بطريقة التطوير ولأجل تجنب منطقة الدعم والإعانات التي تتعارض مع أنظمة منظمة التجارة العالمية يمكن إشراك الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة وتأسيس معاهد على نطاق واسع، هناك مبادرات، لكنها أقل وأصغر من أن تحدث أثرا عالميا". كما أن هذه الصناعات تحتاج إلى جمعيات علمية ومهنية تمكنها من حماية مصالحها عالمياً، ويواصل الدكتور إحسان "الملاحظ أخيراً العديد من الدول أزعجت شركات البتروكيماويات في المنطقة بدعاوى الإغراق من دول مهمة مثل الهند والصين، لذلك لا بد من وجود تصور، أعتقد هذه الصناعة قطار لن يستطيع أحد إيقافه عالمياً ولها موقع كبير، المحك أن تنتقل إلى ميزة تنافسية أكبر مما يعطيها استقرارا على المدى الطويل". من جانبه دعا الدكتور راشد أبانمي المتخصص في قطاع النفط دول مجلس التعاون الخليجي إلى العمل مجتمعة لبناء القدرات وإيجاد أنظمة ومؤسسات تسهم في تحسين صناعة البتروكيماويات، وحماية ومصالحها. وأكد أبانمي في تصريح لـ "الاقتصادية" على أهمية أن تتبع دول الخليج استراتيجية تنويع مزدوجة، تقوم على التنويع الرأسي في مراحل سلسلة الصناعات التحويلية وصولاً إلى المنتجات النهائية، والتنويع الأفقي المتمثل في قطاعات الخدمات المساندة. ويرى ضرورة تشجيع الشراكات مع الشركات العالمية والعمل على استمرارها، كونها مكوناً رئيساً في استراتيجية صناعة البتروكيماويات في دول مجلس التعاون الخليجي، وشدد على أهمية التأكد من توافق عملياتها مع القوانين التجارية الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية، من أجل الالتزام بأنظمة وضوابط "جهاز تسوية المنازعات"، وتجنب الدعاوى القضائية ضد نشاطها التصديري، وإنشاء آليات رصد وتحليل تساعد على تفادي تلك الدعاوى القضائية قبل بدئها. وأشاد أبانمي بكلمة مساعد وزير البترول والثروة المعدنية الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز في منتدى"جيبيكا" في دبي، وقال إن الكلمة بمثابة خريطة طريق توضح معالم التأهيل والاستعداد لتلك الصناعة لمواجهة تلك التحديات على أفضل وجه ممكن، كمواجهة تحديان عالميان يتمثلان في المنافسة العالمية الحادّة، والآخر في سياسات الحمائية المتزايدة، وتحديان محليان يتمثلان في صغر السوق ومحدودية صناعة البتروكيماويات. وأضاف أبانمي: أن التحدي المحلي الأول يتمثل في صغر حجم أسواق منتجات البتروكيماويات المحلية والإقليمية وهذا التحدي يجب مقارعته بإيجاد زيادة في الطلب في منطقة الشرق الأوسط، عبر توسعة شبكة التوزيع، وتطوير صناعات محلية مساندة، مع توفير الفرص الوظيفية للمواطنين وزيادة دخولهم الذي يتوقع أن يصل عدد السكان إلى 700 مليون نسمة بحلول 2050، ما يتطلب جهودا ملموسة من جانب الحكومات والصناعة، والعمل على إصلاحات هيكلية لأنظمة التعليم وأسواق العمل في الشرق الأوسط، والتركيز على برامج استحداث الوظائف في دول مجلس التعاون الخليجي وإيجاد فرص عمل لهم. وذكر أن التحدي المحلي الآخر هو محدودية مساهمة صناعة البتروكيماويات في دول مجلس التعاون الخليجي في تنويع اقتصاداتها المحلية عبر تعزيز إنتاجيتها. وفي هذه الجزئية تحديدا يرى الأمير عبد العزيز بن سلمان أن المعرفة تحوّلت بصورة متزايدة إلى كونها المحرك الرئيس للإنتاجية، والنمو الاقتصادي، والتنويع. ومعظم المنتجات التي تستهلكها المجتمعات الحديثة، تحتاج من المعارف أثناء تصنيعها إلى أكثر مما لدى الفرد الواحد، وبالتالي أصبح تنويع المعرفة المفتاح الذي يتيح للمجتمعات الحديثة أن تعمل بطريقة منتجة. لكن بناء اقتصاد قائم على المعرفة الإنتاجية مهمة ذات تحدٍ كبير. واستشهد مساعد وزير البترول في أطلس جامعة هارفارد الخاص بالتعقيدات الاقتصادية، مشيرا إلى أن المعرفة الإنتاجية "لا يمكن تعلّمها بسهولة مثل أغنية أو قصيدة". فهي تتطلب تغيرات هيكلية واسعة تشمل إيجاد مؤسسات جديدة، وتحولات في أنماط التفاعل داخل المؤسسات والمجتمع. كما أنّ توسيع المعرفة الإنتاجية لا يعني شكل المشاريع ومظهرها، ولا جمال البنايات، بل الأشخاص الذين يشغلون هذه البنايات، ومستوى مهاراتهم وتدريبهم. إنه يتعلق بنظام التعليم القادر على تزويد الخريجين بالمهارات المطلوبة في سوق العمل، وبالسياسات الحكومية الشاملة والمنسجمة، وبالتعاون الوثيق بين المؤسسات المختلفة والصناعة، وبأجهزة حكومية تعمل كفريق واحد لديه مجموعة متنوعة من الكفاءات، والمعرفة، والمهارات، ذات رؤية واضحة ملتزمة بخطة طريق تسير بها إلى الأمام". ويشدد الأمير عبد العزيز بن سلمان على أن بناء اقتصاد قائم على المعرفة يحتاج إلى عقود عدة. وإلى أن يتم ذلك على صناعة البتروكيماويات في دول مجلس التعاون الخليجي، يجب أن تستثمر خبرتها ومعرفتها التراكمية، للدفع قدماً نحو استراتيجية تنويع مزدوجة، تقوم على التنويع الرأسي في مراحل سلسلة الصناعات التحويلية وصولاً إلى المنتجات النهائية، والتنويع الأفقي المتمثل في قطاعات الخدمات المساندة.
مشاركة :