د. مصطفى راتب * تمثل مرحلة جرد التركة مرحلة أولية ولازمة في كل تصفية جماعية للتركة؛ اذ بهذا الجرد يمكن حصر كل موجودات التركة وحقوقها، وتحديد ديونها؛ بما يُبيِّن مركز التركة الحقيقي الذي يقوم المصفى بمهمته في التصفية على ضوئه. ولما كان من المتصور وجود حقوق للتركة أو ديون عليها تكون خافية غير معلومة، فقد أوجب المشرع على المصفى أن يوجه تكليفا علنيا لدائني التركة ومدينيها يدعوهم فيه لأن يقدموا بيانا بما لهم من حقوق وما عليهم من ديون، وضمانا لتحقيق الصفة العلنية لهذا التكليف إلى أقصى الحدود، يستلزم المشرع بلصق التكليف على لوحة المحكمة الابتدائية المشكلة من قاض واحد، والتي يقع في دائرتها آخر موطن للمورث، وفي صحيفة من الصحف اليومية واسعة الانتشار. وعلى أية حال، فيحدد المشرع ميعادا معينا هو شهر يبدأ من التاريخ الذي يُنشر فيه التكليف آخر مرة يجب على دائني التركة ومدينها الاستجابة في خلاله لهذا التكليف (مادة 870 معاملات مدنية)، وعلى ضوء ما يتجمع لدى المصفى من بيانات استجابة للتكليف العلني، إضافة إلى ما تكشف عنه أوراق المورث وما هو ثابت في السجلات العامة من حقوق له وديون عليه، وما يصل إلى علم المصفى عنها من أي طريق كان، وما يبلغه إليه الورثة منها وفقا لما يوجبه عليهم القانون من ذلك (مادة 872 معاملات مدنية)، يُعِد المصفي قائمة بجرد التركة تبين حقوقها وديونها وتحدد قيمة أموالها. وعليه أن يودع هذه القائمة قلم كتاب المحكمة خلال ثلاثة أشهر من يوم تعيينه، ما لم يأذن له القاضي في مد هذا الميعاد لظروف تبرر ذلك، وعليه أيضا أن يخطر بكتاب موصي عليه في الميعاد المتقدم كل ذي شأن بحصول هذا الإيداع (مادة 871 معاملات مدنية). وبحصول هذا الإيداع مع الإخطار عنه، ينفتح ميعاد للطعن في قائمة الجرد خلال الثلاثين يوما التالية للإخطار؛ فلكل ذي شأن أن ينازع في صحة الجرد، خاصة في شأن إغفال أعيان أو حقوق للتركة أو ديون عليها أو في شأن إثباتها، أن يتقدم بعريضة إلى المحكمة بذلك في الميعاد المذكور ويجري القاضي تحقيقا: فإذا رأى أن المنازعة جدية، أصدر أمرا بقبولها وتصحيح قائمة الجرد على هذا الأساس، وإذا قدر أن المنازعة غير جدية أمر برفضها، ولكن يجوز التظلم من أي من الأمرين وفق أحكام قانون الإجراءات المدنية والتجارية، وإذا كانت المنازعة تمس حقا أو دينا لم يسبق الاختصام عليه أمام القضاء، يعين القاضي أجلا يرفع فيه ذوو الشأن دعواهم أمام المحكمة المختصة، وتقضي فيها هذه المحكمة على وجه الاستعجال (مادة 874 معاملات مدنية)، ويجوز للورثة بمجرد انقضاء الميعاد المقرر للمنازعات المتعلقة بالجرد المطالبة بأن يتسلموا بصفة مؤقتة الأشياء والنقود التي لا يحتاج إليها في تصفية التركة أو أن يتسلموا بعضا منها؛ وذلك مقابل تقديم كفالة أو بدون تقديمها (مادة 883 معاملات مدنية). تسوية ديون التركة المرحلة الثانية في تصفية التركة؛ هي: مرحلة تسوية ديونها من حقوقها. وواضح أن الديون التي يقع على عاتق المصفى تصفيتها وسدادها هي أصل الديون التي تشملها -أو كان يجب أن تشملها- قائمة الجرد وفق نتيجة الفصل في المنازعات المتعلقة بالجرد، فلا يلتزم المصفي إذن بسداد الديون التي لم يخطر بها من قبل أصحابها ولم يضمنها قائمة الجرد؛ بالتالي ليس معنى ذلك ضياع هذه الديون على أصحابها بصفة مطلقة حتى ولو تمت تصفية التركة وتسلم كل وارث نصيبه خالصا من الديون. ذلك أن هذه الديون قد تكون مضمونة بتأمينات عينية فيظل لأصحابها حق التنفيذ بالأولوية على العين الضامنة للدين تحت يد الورثة أو حق تتبعها تحت يد الغير لاقتضاء ديونهم من قيمتها بالأولوية كذلك، ولكن يراعى أن عدم ظهور هذه الديون في قائمة الجرد أمر نادر؛ لأنَّ المصفی مُلزم بأن يثبت في هذه القائمة ما يكون ثابتا في السجلات العامة؛ ومنها سجلات السجل العقاري من قيود لتأمينات عينية لبعض ديون المورث. أما إذا كانت الديون عادية، فيكون تعرض أصحابها للخطر كبيرا، لكنهم يملكون دائما حق التنفيذ على ما لا يزال بيد الورثة من أعيان التركة، أما الأعيان التي تصرف فيها الورثة فاكتسب الغير حقوقا عينية عليها، فيمتنع على الدائنين التنفيذ عليها إذا كان الغير حسن النية، ولكن يبقى لهم على أية حال حق الرجوع على الورثة في حدود ما عاد عليهم مقابل التصرف من ثمن أو بدل أو عوض... وللحديث بقية. * أستاذ مساعد بكلية البريمي الجامعية
مشاركة :