استمع د.حسن مدن تعالج مسرحية بستان الكرز لأنطون تشيخوف حكاية بيع بستان حيث يُزين صاحب الاقتراح فكرته لأصحاب البستان الواقعين في عوز، على نحو ما يفعل كل الجشعين اللاهثين وراء المال، والكارهين للجمال، بالقول: الضيعة تقع على بعد عشرين كيلومتراً فقط من المدينة وبقربها مد خط سكك حديدية، ولو قسم البستان وأراضيه الواقعة على النهر إلى قطع لبناء الفيلات وأجّرت هذه القطع، فسوف تحصلون على خمسة وعشرين ألفاً في السنة على الأقل. ولو أعلنتم الموافقة فوراً، فأقسم لكم بما تشاؤون، بأنه حتى الخريف لن يتبقى لديكم قطعة أرض واحدة، سنؤجرها كلها. أهنئكم من الآن. واستطراداً في تزيينه لفكرته الجهنمية تلك يواصل المحتال: الموقع رائع والنهر عميق، لكن بالطبع ينبغي تنظيف المكان قليلاً وتهذيبه. مثلاً ينبغي إزالة جميع المباني القديمة. تقطيع أشجار بستان الكرز. ما إن سمع أحد مالكي البستان هذا الاقتراح حتى هتف مندهشاً: ماذا تقول؟ تقطيع الأشجار؟ إنك لا تفقه شيئاً. إذا كان في هذه المحافظة شيء جميل فهو فقط بستان كرزنا، لكن الرد كان جاهزاً: الشيء الرائع الوحيد في هذا البستان أنه كبير جداً، والكرز لا يثمر إلا مرة كل عامين، ثم إنه لا يمكن تصريفه، لا أحد يشتريه. نستحضر مسرحية تشيخوف هذه، ونحن نرى مآلات البقع الخضر في عالمنا العربي، التي تتلاشى يوماً بعد يوم، لتحل مكانها الكتل الخرسانية الضخمة التي تدر الذهب على جيوب المنتفعين من طراز صاحب فكرة بيع بستان الكرز في المسرحية. شيء قريب من هذا، نجده في مراث كثيرة لكتاب عرب لفضاءات مدنهم الخضر التي تقتلع من أفئدتهم وتغيب عن أبصارهم، ومن ذلك ما كتبه المغربي الزبير بن بوشتى الذي كتب يتوجع لفقدان مدينة كان يعرفها وتحولها إلى مدينة أخرى تُغْتصب ذاكرة أمسها الجميل ومعالمها التاريخية وعذرية غاباتها، وتكتسح جرافات الهدم فضاءاتها الجميلة، فلم تعد تنتمي إلى أطفالها بعد أن بخلت عليهم بمساحات خُضْر وبحدائق للتنزه، فضاءات كانت ذات يوم بساتين غناء قبل أن تتحول إلى مزارع تستبيحها العمارات الشاهقة بوقاحة معمارية فظة. مثل هذه المرثية يمكن أن نقرأها عن بيروت وعن دمشق وعن القاهرة والإسكندرية، وعن بغداد والبصرة، وعن غيرها من مدننا العربية في المشرق والمغرب، التي تُخلي مكانها لمدينة جديدة لا تشبهها، لا في الروح ولا في المعمار. madanbahrain@gmail.com
مشاركة :