رغم الخبرات المكتسبة من آلاف القضايا التي شملت تحقيقات الإغراق، ودعاوى الإغراق، وأحكام المعونات التي تُفضي إلى الإغراق، وفرض الرسوم التعويضية المرتبطة بالإغراق، إلا أن الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية لم تستفد من تلك الخبرات في إنجاز اتفاقية جديدة حول محاربة الإغراق. تجري هذه المفاوضات المهمة منذ 14 عاما، وتحديدا منذ التوصية الصادرة عن جولة مفاوضات الدوحة عام 2011 للنظر في إعادة صياغة أحكام محاربة الإغراق. وبسبب بطء المفاوضات، أوصى المؤتمر الوزاري في هونج كونج عام 2005 بتكثيف وتسريع عملية التفاوض، وتكليف الرئيس بإعداد نصوص موحدة لاتفاقيتي مكافحة الإغراق والإعانات، كي تكون أساس المرحلة النهائية من مفاوضات جولة الدوحة. عموما، يحدث الإغراق إذا صدَّرت شركة ما منتجا بسعر أدنى من سعر بيعه في سوق البلد المصدِّر، أو أقل من سعر تكلفة إنتاجه، وألا يكون البلد المستورد منتجا لهذه السلعة، وحتى إذا كان منتجا لها، عليه أن يُثبت أن وارداته من هذا المنتج تضر، أو تُهدد بإلحاق ضرر، بمنتج مماثل تنتجه الصناعة المحلية. بموجب هذه الشروط فقط يُمكن أن يُقال هناك إغراق. التساؤل المطروح هو: هل هذه الممارسة منافسة غير مشروعة؟، تختلف الآراء حول هذا الأمر، خاصة أن اتفاقية منظمة التجارة لا تنص على أحكام فنية صارمة وواضحة حول الإغراق، بل تتحدث عن حق الحكومات في فرض رسوم الإغراق عندما يوجد ضرر حقيقي ومادي للصناعة المحلية. من أجل أن تتمكن الدولة المتضررة من فرض رسوم محاربة الإغراق، يجب أن تكون قادرة على إظهار أن الإغراق قد حصل فعلا، وأن تحسب مدى الضرر المادي للإغراق (كم يتدنى سعر التصدير مقارنة بسعر سوق الشركة المُصدِّرة؟). هناك عديد من الطرق لحساب ما إذا كان منتج معين قد تم إغراقه بشدة أو بصورة طفيفة. الملاحظ أن اتفاقية مكافحة الإغراق تضيِّق من نطاق الخيارات الممكنة، وتوفر الاتفاقية ثلاث طرق لحساب "القيمة العادية" للمنتج، حيث تستند الأولى إلى سعر المُنتج في السوق المحلية وفي الدولة المصدرة، والثانية الأسعار التي يبيع بها المصدِّر في البلدان الأخرى، أو العملية الحسابية التي تستند إلى الجمع بين تكاليف الإنتاج التي يتحملها المصدِّر، والمصروفات الأخرى، وهوامش الربح الاعتيادي. وتحدد الاتفاقية أيضا كيف يمكن إجراء مقارنة منصفة بين سعر التصدير وما يمكن أن يكون سعرا عاديا. لكن الاتفاقية لا تُقدم طريقة رياضية مُحددة لحساب فارق سعري المُنتج (فارق السعر بين السوق المحلية وسوق التصدير) وعلاقة هذا الفارق بمستوى المعيشة، وسعر صرف العملة المحلية في البلدين أو عدة بلدان. علاوة على ذلك لا تنظم الاتفاقية أعمال الشركات التي تقوم بالإغراق، بل تركز على كيفية رد فعل الحكومات أو افتقار رد فعلها على الإغراق الذي قامت به واحدة من شركاتها. هذه الثغرات التي تثير بشكل متواصل المزيد من الجدل داخل منظمة التجارة، هي التي دفعت نحو تأسيس هذه المفاوضات. أكثر من 3.200 تحقيق لمحاربة الإغراق أطلقتها الدول الأعضاء منذ أن ظهرت المنظمة إلى الوجود عام 1995، حيث استخدمت البلدان المتقدمة، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان إجراءات مكافحة الإغراق. لكن بعض الاقتصادات الناشئة زادت هي الأخرى من لجوئها إلى إجراءات مكافحة الإغراق خاصة الهند، وجنوب إفريقيا، والأرجنتين والصين، التي أصبحت الآن تشكل الأغلبية في هذه الإجراءات. هذا الأمر دفع 14 دولة هي البرازيل، وشيلي، وكولومبيا، وكوستاريكا، وهونج كونج، والصين، واليابان، وكوريا، والمكسيك، والنرويج، وسنغافورة، وسويسرا، وتايبيه الصينية، وتايلند، وتركيا، إلى تشكيل مجموعة غير رسمية، أطلقت على نفسها اسم «أصدقاء مفاوضات الإغراق» التي تؤكد ضرورة تحسين الاتفاقية الحالية لمكافحة الإغراق عن طريق تشديدها والتصدي لما يعتبرونه «إساءة استعمال تطبيق تدابير مكافحة الإغراق». وطرحت المجموعة مقترحات لتشديد الضوابط على إجراء تحقيقات الإغراق بطريقة تجعل من الصعب على الحكومات إساءة استخدام الرسوم التعويضية. وتقول لـ "الاقتصادية"، باولا بير مسؤولة الصحافة في البعثة التجارية السويسرية، إن المفاوضات بطيئة، والدول الأعضاء لم تقترب من بعضها، وكانت هناك نقطة صغيرة في اجتماع الأيام الثلاثة الماضية ونحن الآن في دورة تقييم مقترحات جديدة قدمتها اليابان نيابة عن «أصدقاء محاربة الإغراق». وأضافت باولا بير، أنه تمت مناقشة إمكان إجراء تغييرات في اتفاقية مكافحة الإغراق بطريقة تُلغي تلقائيا رسوم مكافحة الإغراق كل عشر سنوات بعد تاريخ فرضها، ومقترح آخر يدعو سلطات التحقيق لأخذ آراء الصناعيين والموردين للصناعة المحلية، والهيئات المعنية بالمستهلكين في الاعتبار، والسماح للدول بممارسة نظام "التصفير" في طريقة حساب رسوم الإغراق، الذي تعتبره هيئة تسوية المنازعات غير قانوني، ووضع تدابير ضد محاولات التحايل على رسوم مكافحة الإغراق، وإنشاء نظام جديد للاستعراض الدوري لسياسات وممارسات الدول الأعضاء المتعلقة بمكافحة الإغراق، مشابهة لاستعراضات السياسات التجارية للأعضاء. ودعمت دول «أصدقاء مفاوضات الإغراق» بشدة وضع فترة محددة لرسوم مكافحة الإغراق، وبينما تقول اليابان إن المصلحة العامة تدعو للتخلص من رسوم مكافحة الإغراق بعد فترة معينة، ترى البرازيل أن وضع حد أقصى قدره عشر سنوات على رسوم مكافحة الإغراق، خطوة جيدة لكنها ليست بالقدر الكافي حيث تطالب بمهلة زمنية أقصر. واعترضت الولايات المتحدة بشدة على إجراء تغييرات جوهرية في أحكام مكافحة الإغراق وعلى مطلب إنهاء رسوم مكافحة الإغراق بعد عشر سنوات، وقال الممثل التجاري الأمريكي إن تجربتنا أثبتت أن بعض الشركات تواصل إغراق سلعها على الرغم من الرسوم المحاربية للإغراق. متسائلا: لماذا يجب إزالة تدبير فعال يحارب الإغراق في مثل هذه الظروف؟.
مشاركة :