وسط الأحداث المتلاحقة الملتهبة التي تحيط بعالمنا مثل جائحة «كورونا»، التي أكلت الأخضر واليابس، وحروب لا تتوقف في أفغانستان وسوريا، وبوادر مواجهات ساخنة في أوكرانيا وتايوان لتحويل الحرب الباردة إلى حرب «مغلية»، يبقى الشيء الثابت والمستمر هو إدمان الناس حول العالم على ماكينة القدم الساحرة. فرغم خلو المدرجات من الجماهير فإن المباريات تبقى مستمرة حول العالم، وكأنها إشارة وحيدة للحياة التي كنا نعرفها قبل تفشي الجائحة المدمرة. مقولة جدلية كان قد قالها قديماً المفكر الشيوعي كارل ماركس مفادها أن «الدين أفيون الشعوب» ولو كان بيننا اليوم أكاد أجزم أن مقولته ستتبدل تماماً لتصبح: «إن كرة القدم أشد إدماناً من كافة المخدرات». قامت أكثر من دراسة متخصصة في علم النفس وتارة في علمي السياسة والاقتصاد لمحاولة فهم عمق وأهمية تأثير اللعبة الأولى حول العالم أو الساحرة المستديرة. ولسنا بحاجة للذهاب بعيداً في معرفة هذا التأثير إلا بمراجعة الخطاب الإعلامي الذي يصاحب تغطية أحداثها، وهي تغطية تليق بالحروب والمواجهات العسكرية أكثر من تغطية مباراة في كرة القدم وتنافس رياضي بحت. فلنتمعن كيف تحول مفهوم المباراة إلى مواجهة ومعركة والهزيمة إلى نكسة ونكبة، والفوز إلى انتصار ثوري تاريخي، والملعب إلى ساحة معركة ومنطقة وسط الملعب إلى منطقة المناورات، والهدف إلى قاتل، والمدرب إلى قائد، ودكة البدلاء إلى الاحتياطي الاستراتيجي، وحارس المرمى إلى سور الصين العظيم، وتحول المدافعون في الخلف إلى الحصن المنيع، وخط الهجوم إلى المقاتلين، والجماهير إلى الشعوب الصابرة. فسر أحد علماء الاجتماع هذا التصعيد «اللغوي» على أرض الملعب لتغطية مباراة كروية بأنه لأجل صرف النظر عن المواجهات العسكرية بين الشعوب، والتي تكلف العالم الملايين من المال والبشر. ولكن المثل يقول: أبحث عن خط المال. فالآلة الاقتصادية الهائلة التي أصبحت عليها كرة القدم حولتها إلى صناعة مستقلة بذاتها تسيطر وتهيمن عليها إحدى أخطر وأهم المؤسسات الأممية وأكثرها فاعلية وتأثيراً، والمعنى هنا الاتحاد الدولي لكرة القدم المعروف باسم «الفيفا»، وهو الذي باتت لديه سلطات وقدرات قانونية تتفوق على سيادة بعض الدول. في كتاب «اقتصاد الكرة» يقدم الكاتبان سيمون كوبر وستيفان سيزمانسكي تحليلاً بديعاً للعلاقة الطردية بين النجاح الكروي والاقتصاد المحلي بشكل أخاذ ومقنع، وهناك كتاب آخر لا يقل أهمية للكاتب إجناسيه بالاسيو هويرتا بعنوان «نظرية اللعبة الحلوة» ويشرح فيه كيف من الممكن أن تقوم كرة القدم عملياً وفعلياً بمساعدة الاقتصاد في دول العالم. وهناك كتاب ثالث جدير بالذكر هنا هو «السيطرة على الملعب» ويشرح فيه مؤلفه أهم أساسيات وقواعد اقتصاد كرة القدم. هناك العديد من الأمثلة الواضحة التي تثبت القيمة المتزايدة لاقتصاد كرة القدم سواء من صفقات اللاعبين، وعقود المدربين، واتفاقيات الرعاية للأندية والعلاقات بين المؤسسات الإعلامية الكبرى، وحقوق بث البطولات تلفزيونياً. ومن المهم في هذا السياق قياس الحراك الاقتصادي الإيجابي الذي تلا لكل دولة فاز منتخبها الوطني ببطولة كأس العالم لكرة القدم، وهي موجودة ببيانات موثقة ويمكن الرجوع إليها. كل هذا الزخم هو الذي حول المعلقين الرياضيين إلى فلاسفة وأصبحت شهرة البعض منهم تتخطى نجوم الغناء والطرب، كما أصبح المدربون مستشاري إدارة وخبراء تطوير الذات يتقاضون لأجل ذلك مبالغ محترمة نظير ندواتهم. إنه الأثر الاقتصادي في أبسط صوره لتأثير الساحرة المستديرة. وهذا الأثر الاقتصادي المتطور هو الذي جعل عملاق الإنترنت «أمازون» يقوم بتقديم عرض مغر للغاية لاتحاد كرة القدم الإنجليزي لبث مباريات بطولاته القادمة على منصته الخاصة المعروفة باسم «أمازون برايم»، هذه الصفقة ستقوم بضخ أموال هائلة في الدوري الإنجليزي الأول حول العالم، لتوسع الفجوة بينه وبين الدوريات الكبرى الأخرى لتذكر العالم ما فعلته صفقة روبرت ميردوخ صاحب قنوات «سكاي» التي اشترت حقوق بث الدوري الإنجليزي وما تسببت فيه أموال تلك الصفقة من أحداث النقلة النوعية للأندية الإنجليزية، وجلب الاستثمارات الهائلة إليها لتتبوأ صدارة المشهد الكروي بامتياز كما بات معروفاً اليوم. كرة القدم يزداد تأثيرها لتتحول من قوة ناعمة تقليدية إلى قوة اقتصادية خشنة تتصارع الدول فيها لحماية مصالحها الاقتصادية المتزايدة.
مشاركة :