مشى الماغوط فوق النار وهو يمسك بقلمه، لكنه لم يحترق. رحل، لكنه لم يمت. حاك من الفقر والجوع والخوف والحزن كلماته، فاستوطن في قلب الإنسان العربي، تحت عريشة العنب، ومشى بين سطوره. لم يكن يدغدغ مشاعر هذا الإنسان بكلماته، كي يتباهى هو بها، بل كان يكتبها كاللحن والنغم، كالأغنية التي يحب، ويقفز بها فوق أسوار الرقابة وظلال المراقبين، ويخرج فيها من بطن العربي الجائع وقلبه المرتجف، إلى حدائق فمه التي افتقدت لابتسامة عابرة هادئة، كما يعبر النسيم الصفصاف. ابن «سلمية» لم يكن يكتب، بل كان يلوك تبغ الحياة المر، ويقذفه على الورق. يحتضن كل مسكين في جمله، وكل امرأة عربية في صوره، ويشبك روحه في شرود، منتظراً كلماته كفلّاح انتظر الماء فوق خطوط الحقل تحت الشمس في أوج إشراقها. الشاعر المجتهد الهارب من كل شيء إلى قضيته، والعائم فوق بحار من الحزن والخوف. المتمسك دائماً ببساطته الأولى. أنجبت مدينة سلمية في الثاني عشر من شهر ديسمبر عام 1934 الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط، ابن أحمد عيسى، في كنف أسرة فقيرة جداً، كما هي حال معظم أهالي المدينة التي تقع على مسافة تقترب من 32 كم شرق مدينة حماة باتجاه الجنوب، غافية على مشارف الصحراء، كعروس متعبة بعد سهر طويل، متعطشة لزيارة غيم عابر. تنتظر تربتها الصفراء مغازل الماء في خطوط من السماء أو الأرض لتبتسم محاصيلها من القمح والشعير والعدس والبطاطا والذرة الصفراء والبصل وغيرها. مدينة سلمية بعراقتها وجذورها الضاربة في عمق التاريخ جمعت أقواما عديدة مرت على منطقة بلاد الشام، وترك فيها معظمهم أثرا في القلب أو في مكان قريب منه، بدءا من العصر البرونزي لإنسان الكهوف والعموريين والحيثيين والآراميين والآشوريين والكلدانيين واليونانيين والرومان وغيرهم حتى العصر الإسلامي. لكن أكثر ما يجعل هذه المدينة تكتسي بالشهرة، هو العدد الكبير للمفكرين والمثقفين، الذين خرجوا منها؛ كعلي الجندي ومحمد مصطفى درويش وفايز خضور وسليمان عواد وأكرم قطريب وعارف تامر وغيرهم الكثير الكثير. يقول البعض في اسمها إنه جاء من تسمية اليونان لها بمدينة السلام، حيث توجد بعض المخطوطات القديمة، والتي حملت اسم «إيريني بوليس»، أي مدينة السلام، باللغة الإغريقية. وتحول الاسم مع الزمن إلى سلمية. ومن أهم معالمها قلعة السلمية ومعبد زيوس (مقام الإمام إسماعيل حاليا)، وقلعة شميمس في الشمال الغربي من المدينة، ومزار الخضر، الذي كان كما يقال ديرا مسيحيا «مار جورجيوس»، والسور الذي بناه نور الدين الزنكي، والقنوات الرومانية. تركت سلمية في الماغوط الأثر الكبير، مما دفعه لذكرها في كتاباته، فيقول إنه اكتسب إحساسه بالظلم البشري والفوارق الطبقية من نشأته في «هذه القرية الحائرة بين الصحراء والمدينة، والمنقسمة إلى أمراء وفلاحين»، ويتابع: «أعتقد أن ماركس كان ينبغي أن يولد في السلمية، وليس في ألمانيا، ليخترع نظريته في الصراع الطبقي»، معتبرا أن السلمية نمّت فيه حس التمرد، «حين تفتح وعيي على مقابر خاصة للأمراء، ومدارس خاصة لأولادهم». واعتبر الماغوط أنه في مطلع الثلاثينيات لم تكن السلمية مدينة، كانت قرية نائية وباسلة، تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمرة كما تنظر الفرس إلى أجراسها، أما التاريخ المتسلسل في المعارك الكبرى فيظل في جيب المختار، ويرى أن الموت كان طبيعياً فيها، بل ضرورياً ومتوقعاً في كل لحظة، وعلى هذا الأساس كان أطفالها شرسين كالحشرات، ورجالها لا يتورعون عن ضرب أشجارهم بالسوط لأنها لم تثمر في الوقت المحدد. لم يخرج من بيته إلى الحارة إلا في السابعة من عمره، ولم يكن خروجه للعب مع الأطفال، بل ليرعى الخراف. لذلك فإن جل ما يتذكره من السلمية هو «الوحل والبرد والأحلام والغيوم والأبقار والرياح». هذه المدينة أنجبت شاعرنا الذي قال فيها أيضا: «سلمية نقطة زيت كبيرة في ماء الوطن». كما برز حبه للمدينة في كتاباته وشعره، حيث كتب الماغوط قصيدة «سلمية» أواخر الستينيات، في ديوان «الفرح ليس مهنتي»، وقال: «حين كتبت القصيدة اعتقدت أني سددت الفاتورة نحو مسقط رأسي، لكنني اكتشفت لاحقا أن هذه المدينة مقيمة في دمي، فهي التي علمتني الحزن والسوداوية». وقال فيها: سلمية الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه ومات حنينا إليها سلمية الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا وهي تلهو بأقراطها الفاطمية وشعرها الذهبي وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن ومن الشرق الغبار ومن الغرب الأطلال والغربان فصولها متقابلة أبدا كعيون حزينة في قطار نوافذها مفتوحة أبدا كأفواه تنادي.. أفواه تلبي النداء وفي حوار أجراه الأديب عادل أبوشنب (مؤرخ وقاص وروائي وكاتب مسرحي وتلفزيوني سوري – مجاز باللغة العربية من جامعة دمشق)، عن النشأة ومرحلة الطفولة يقول الماغوط: "في سلمية، في مجتمع وسط بين الرعوية والحضرية، أما كيف عشت فيها مطلع حياتي، فبإحساس الظلم، وبفقدان العدالة الاجتماعية والاقتصادية، لأن مجتمع السلمية كان منقسماً إلى أقلية من الأمراء، وأكثرية من الفلاحين والرعاة. وأسرتي الماغوطية تتوزع بين ملاكين وفلاحين، ولكن فرعنا نحن ينتمي للفلاحين، أنا وأبي وأمي وشقيقاتي الخمس وأخواي. خواطر وانطباعات لا يتحدث الماغوط كثيرا عن والدته، لكنه يذكر بعض القصص، ومنها قصة رواية الأرجوحة التي سنتحدث عنها لاحقاً. يتابع الحديث عن نفسه في بداياته فيقول: «ختمت القرآن الكريم بين السنتين الخامسة والسادسة من عمري. وكنت أكتب وأنا صغير خواطر وانطباعات، كما كنت أحاول في الرسم. لكن هذه الظاهرة تقلصت عندي في الكبر لتمتد وتتطاول وتتعمق الظاهرة الشعرية، أو لأقل الظاهرة الكتابية». فتعلم الماغوط قراءة القرآن الكريم، الذي أصبح فيما بعد مرجعيته الأولى في اللغة العربية، وظلّت رائحة صفحات القرآن العتيقة وكيسه القماشي عالقة في ذاكرته، ففي أحد حواراته التلفزيونية، التي أجريت معه قبل وفاته بفترة وجيزة، وعندما يعمل المسجل ويسمع الماغوط صوت مرتل القرآن يقول بكل عشق وحب: أحبه كثيراً (يقصد عن القرآن) ويتابع: (والنجم إذا هوى)... جميلة جداً. الطفل المتمرد بدأ محمد الماغوط التدخين منذ التاسعة من عمره، حتى أنه كان يلتقط أعقاب السجائر ويدخنها، وعكس هذا شيئاً من روح التمرد لديه، هذه الروح التي اصطدمت بالسلطة الأبوية التي يملكها أبوه، الذي حاول توجيه ابنه وكبح جماحه، ولكن دون جدوى. وروح التمرد هذه التي ظهرت مبكراً لديه تجلّت أيضاً بشكلها الواضح حين أتى أحد الأمراء، وهو فارس، ليرمي حنطة للفقراء، وذلك أثناء دفن أحدهم، فكان أن الماغوط الطفل أمسك بحجر وضرب الأمير الفارس به. ويذكر الماغوط بعد سنين طويلة أن آثار سوط الأمير بقيت على جلده، ويقول إن أخاه الأستاذ إسماعيل الماغوط كان متمرداً أيضاً منذ الطفولة، في حين يتحدث عن والده فيقول: «كان أبي لا يحبني كثيراً، يضربني على قفاي كالجارية... ويشتمني في السوق». وفي كتاب «رسائل الخوف والجوع» يروي عيسى الماغوط حكايات بلا حصر عن شقيقه محمد، ويقول: روى محمد لي أنه ذهب مرة مع رفيق له من السلمية، قريته، إلى حماة المدينة مشياً على الأقدام، وعندما رغبا في العودة، ولم يكن معهما نقود، مكثا في المرآب إلى أن اختبآ في مؤخرة سيارة متوجهة إلى السلمية. وبعد إقلاع السيارة شما رائحة لحم مشوي بقربهما، فبحثا في العتمة وعثرا على اللحم المشوي وأكلا حتى شبعا. وعند اقتراب السيارة من السلمية ألقيا بنفسيهما منها وركضا بين الحقول دون أن يعلم السائق بأمرهما. الفقر والدراسة كانت أسرة الماغوط فقيرة، وكان والده فلاحا يعمل عند غيره كي يحصل على قوت يومه، وفي تلك الفترة كان الأولاد يدرسون عند الكتّاب. وبدأ الماغوط كغيره، حيث كانت مدرسته الابتدائية تحت شجرة وارفة الظل يجتمع عندها أبناء الفلاحين مع «الخطيب» ليعلمهم القراءة والكتابة. يتحدث عيسى الماغوط عن طفولته مع أخيه محمد في كتاب رسائل الخوف والجوع قائلا: «أتذكره كيف يصارع الفقر بالهياج منذ كان في السادسة وأنا في الرابعة طفلاً أشقر جميل الصورة وعصبي المزاج، يحب الخروج إلى الشارع منذ أن نستيقظ من النوم. كنا ننام مبكرين. وكان الشارع مضاء بفوانيس الدومري، الذي كنا نراقبه، وهو ينزل الفانوس عن العمود أو الجدار بعصا طويلة لها نهاية تمكنها من التقاطه فيمسح الزجاج بقطعة قماش، ثم يضيف إليه زيت الكاز ويمسح الفتيل. بعدها يعيد المصباح إلى بيته الزجاجي ويرفعه إلى مكانه. كان الضوء المنبعث من المصباح جامعاً للأطفال حوله، حيث اللعب والمرح. ليالي الصيف في سلمية جميلة، هواؤها منعش ينسينا القيظ اللاهب أثناء النهار». انتقل الماغوط إلى مدرسة سلمية الزراعية، حيث أنهى الدراسة الإعدادية فيها، أما المرحلة الثانوية فقد قرر أن يكملها في ثانوية زراعية في الغوطة بدمشق في منطقة اسمها «خرابو»، لكنه توقف وعاد مجدداً إلى سلمية. ويقول عيسى عن تلك المرحلة من حياة أخيه: «في المدرسة الزراعية لم يكن للطلاب كتب، وإنما ينقلون على دفاترهم ما يكتبه المعلم على السبورة. وكان محمد يكتب بخط جميل، ويرسم ويلون بشكل يذهل معلميه ورفاقه. ولكن عندما يحضر إلى البيت عصر الخميس من كل أسبوع، يحيل البيت إلى حالة من التشنج والهياج بسبب طلباته المدرسية، واحتياجاته الشخصية، وكان يرفض حالة انعدام النقود رفضا رهيبا. وكان يكره الفقر كرها أسطورياً. وذات يوم أراد أن يأخذ مني القروش العشرة التي كنت أحتفظ بها للطوارئ. وقد تعاركنا بالأيدي والأرجل، وأطاح بي أرضا، ثم تمكنت من أن أطيح به، وصار تحتي فوضع إصبعه في عيني فصرخت: عاااااالعين؟ فرد علي وهو يضحك: يم الزلف! فضحكت والدتنا عندما سمعت ذلك، وقدمت نحونا وخلصتنا من بعضنا، وانتهينا إلى تسوية بأن يأخذ هو خمسة قروش وأحتفظ أنا بالخمسة الباقية. ذاع صيت هذا العراك وأصبح الرفاق يقولون لي تهكما: عالعين؟! ومما يقوله الماغوط عن نفسه، بعد حصوله على الشهادة الإعدادية: «أذكر أنني اكتشفت عدم صلاحيتي للعمل في الأرض، وأن الحشرات والمبيدات ليست هوايتي المفضلة، بل الحشرات البشرية». ورغم أن وضع أسرته المادي كا متردياً، فإن والده عمل على تسجيله في ثانوية خرابو بغوطة دمشق، التي كانت تمنح الطلاب المنامة ووجبات الطعام مجانا. ولكن، وقبل سنة واحدة من التخرج ولضيق ذات يده وعجز والده عن تأمين نفقاته المالية المتواضعة؛ لم ينه دراسته في تلك الثانوية، وبعد أن أمضى عدة أشهر في دمشق متفرغاً لكتابة الشعر بعد انقطاع، بُلغ الماغوط بضرورة الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، فاستجاب والتحق. يستذكر شاعرنا أيام طفولته وأوقات المرح والشقاوة في شعره، ويخاطب والده في قصيدة «المسافر»، من ديوان «حزن في ضوء القمر» قائلا: أرسل لي قرميدة حمراء من سطوحنا وخصلة من شعر أمي بع أقراط أختي الصغيرة وأرسل لي نقودا يا أبي لأشتري محبرة وفتاة ألهث في حضنها كالطفل لأحدثك عن الهجير والتثاؤب فأنا أسهر كثيرا يا أبي أنا لا أنام حياتي.. سواد وعبودية وانتظار فأعطني طفولتي وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز وصندلي المعلق... في عريشة العنب لأعطيك دموعي... وحبيبتي... وأشعاري لأسافر يا أبي
مشاركة :