شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (3-16)

  • 4/15/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

انتقل الماغوط بعد سجنه في المزة إلى بيروت، أملاً بوظيفة جديدة تلبي طموحاته في توسيع نطاق شهرته ونشر إنتاجه الشعري، وهناك قدمه الشاعر الكبير أدونيس إلى مجلة «شعر»، التي عرف الناس الماغوط من خلالها بقصيدة «حزن في ضوء القمر»، التي أثارت جدلاً كبيراً بين أوساط الشعراء والنقاد، وتبعها لاحقاً بمجموعة شعرية حملت نفس الاسم. لم يكن أدونيس وحده من تعرف عليه الماغوط في الزنزانة من أصدقاء الشعر والسياسة، بل كان هناك الكثيرون، ومنهم الصحافي إلياس مسّوح (اسمه إلياس خرفان مسّوح، مواليد بلدة مرمريتا السورية عام 1933، حصل على الشهادة الثانوية، ثم اتجه إلى العمل الأدبي وعمل صحافيا في عدة صحف لبنانية كالمجلة والحياة والبناء. وفي الكويت، التي انتقل إليها عام 1969، اشتغل مديرا لتحرير جريدة «الرأي العام» وكاتباً لمقالاتها الافتتاحية حتى 1985، ثم عاد إلى دمشق وعمل في الوكالة السورية للأنباء، وفي مجلة «العربي»- مكتب دمشق، ومن أهم أعماله الشعرية: ديوان «حنان يا أصدقائي» عام 1968 وديوان «سنوات الرياح» عام 1988، وتوفي في مرمريتا عام 2007 عن عمر ناهز 73 عاما). كان الثلاثي (محمد وإلياس وأدونيس) أصدقاء السجن والسفر، إضافة إلى صداقة الجوع. الماغوط تأثر كثيرا بالسجن والخوف، الذي حفر فيه كما تحفر الجرافة، بحسب وصفه. يقول: إنه موجود في أعماقي، في قلبي، في روحي، في عينيّ، في أذنيّ، وفي ركبتيّ. نعم الخوف في الركب وهي ترتجف، أنا لا أرتجف من البرد ولا من الجوع، فقط أرتجف من الخوف، الخوف هو فقدان الحرية هو انعدام الحرية، أنا على طبيعتي لا أحب التنظير، أقول كلمتي وانتهى، «اللي بيفهمها يفهمها، واللي ما بيفهمها عمرو ما يفهمها». ومن المواقف التي تذكر في حياة الماغوط، عندما كان لا يزال يتابع إكمال ما تبقى من خدمته العسكرية بعد خروجه من السجن، وقبل السفر إلى بيروت، في مقهى الهافانا في دمشق، ملتقى الشعراء والأدباء والمثقفين والمناضلين والوطنيين والثوريين، وحتى لاعبي الورق والنرد، حيث دخل الشاعر نزار قباني مرة إلى المقهى، وسأل عنه، وكان قد قرأ بعضا من قصائده، لكنه حين علم أنه يؤدي خدمته الإلزامية دُهش، ولم يصدق! سجين الخوف بقي تأثير الخوف ملازما الماغوط حتى آخر أيام حياته. يقول: الخوف لا يُشرح، مثل الله لا يُفسر، وكالبحر والسماء... هل يعرف أحد ماذا يوجد في السماء؟ كواكب متصلة بعضها ببعض، وكذلك الخوف هو سياط وكماشات، هو أسنان مخلوعة وعيون مفقوءة تغطي العالم، والعالم يرقص ويغني غير مكترث. الخوف هو الظلم. أنا لم أتعذب كثيرا، لكن المبدأ كان يضايقني. لقد تعرضت للضرب بالكرباج مرتين أو ثلاثاً، وحتى اللحظة أتحدث عن تلك المرات، مع الحديث عن ضرب بالكفوف على فمي مرتين أو ثلاثاً أيضاً. لقد كان عندنا في السجن سجانان؛ الأول من محافظة دير الزور لئيم جدا، ولكزته فقط كالسم، والآخر من حوران يده تعادل سهل البقاع كبرا، خبطته غير مؤلمة لا تسبب الوجع. ومرة في السجن أحضروا لأجل الصلاة راديو وميكروفوناً، وأتذكر أول أغنية بثت على الراديو، أول تجربته، «يا ظالم لك يوم»، أقسم بالله، وقد طلبوا وقتها إغلاق الراديو! وعن لقائي بالسجان، فمرةً افتُتح محل للحلويات، وعندما دخلت لأشتري منه عرفته، وقلت له: لقد كنت في سجن المزة، فقال لي: نعم، لكنني كنت موظفاً فقط. وصرنا أصحابا، ولم أشتر إلا من دكانه. وفي حواره مع الكاتب خليل صويلح، يروي عن سجنه فيقول: «بدلاً من أن أرى السماء، رأيت الحذاء، حذاء عبدالحميد السراج (رئيس المباحث آنذاك)»، ويضيف: «تعلمت في السجن أشياء كثيرة، وأولها معاني العذاب وكلمة آه... السجن والسوط كانا معلمي الأول، وجامعة العذاب الأبدية التي تخرجت فيها إنساناً معذباً وخائفاً ُللأبد». أما زوجته الشاعرة سنية صالح فتقول: «بمقدار ما كانت الكلمة التي هي أداته في مواجهة الحياة، طريقاً نحو الحرية في الحلم، كانت طريقه إلى السجن في الواقع». ذهب الماغوط إلى بيروت بعد خروجه من السجن، آخذا معه أشعارا كان قد نشرها في دمشق سابقا، وهي: «الشتاء الضائع – أغنية لباب توما». وفي قصيدة أغنية لباب توما، التي اشتهرت وانتشرت ولقيت إعجابا كبيرا من الناس عامة ومتذوقي الشعر خاصة يقول: حلوة عيون النساء في باب توما حلوة حلوة وهي ترنو حزينة إلى الليل والخبز والسكارى... وجميلة تلك الأكتاف الغجرية على الأَسرّة لتمنحني البكاء والشهوة يا أمي ليتني حصاة ملونة على الرصيف أو أغنية طويلة في الزقاق هناك في تجويف من الوحل الأملس يذكرني بالجوع والشفاه المشردة حيث الأطفال الصغار يتدفقون كالملاريا أمام الله والشوارع الدامسة أو ليتني وردة جورية في حديقة ما يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة أو صليبا من الذهب على صدر عذراء تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى وفي عينيها الجميلتين ترفرف حمامتان من البنفسج أشتهي أن أقبل طفلا صغيرا في باب توما ومن شفتيه الورديتين تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه فأنا مازلت وحيدا وقاسيا أنا غريب يا أمي تلك الأشعار قرأها يوسف الخال، وقال للماغوط: يا محمد، نريد شعرا للمجلة. فرد عليه: ستكون القصيدة غدا في المجلة، مما جعل يوسف يشعر بالاستغراب، وفعلا كانت قصيدة «حزن في ضوء القمر». العمل في بيروت لم يتمكن محمد الماغوط بعد خروجه من السجن، خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر، من البقاء في دمشق لعدم تمكنه من الحصول على وظيفة تسمح له بتأمين نفقاته اليومية البسيطة، كما أنه كان مطلوباً في دمشق، وربما يسجن مرة أخرى، فقرر الهرب إلى بيروت في أواخر الخمسينيات، ودخول لبنان بطريقة غير شرعية سيراً على الأقدام، ثم انضمّ الماغوط إلى جماعة مجلة شعر، بعد أن تعرف على الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه في المجلة، التي قدمه لها وللمجموعة العاملة فيها وأدونيس، ويعتبر هذا اللقاء الثاني لهما بعد السجن، حيث كان أدونيس يقيم في بيروت مع زوجته الأديبة والناقدة خالدة صالح، حيث التقى الماغوط في بيت أدونيس بزوجته سنية صالح في بيت أختها خالدة في بيروت. كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت، قبل أن يقدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة «شعر» المكتظة بالوافدين، ويقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم، دون أن يعلن عن اسمه، ليترك المستمعين يتخبطون (بودلير؟ رامبو؟) لكن أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر، وقال: «هو الشاعر...» ومما لا شك فيه أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة. أما هو، وكنت أراقبه بصمت (تقول زوجته سنية)، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه. ومن خلال هذه التفاصيل ولغتها، وفي هذا الضوء الشخصي نقرأ غربة محمد الماغوط وعزلته، التي لم يخرج منها مع الأيام، بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض، (من مقدمة كتبتها سنية صالح بعنوان «طفولة بريئة وإرهاب مسن» لكتاب الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط). ويقول شاعرنا في قصيدة «حزن في ضوء القمر» 1959، التي نشرت في أول عدد: أيها الربيع المقبل من عينيها أيها الكناري المسافر في ضوء القمر خذني إليها قصيدة غرام أو طعنة خنجر فأنا متشرد وجريح أحب المطر وأنين الأمواج البعيدة من أعماق النوم أستيقظ لأفكر بركبة امرأة شهية رأيتها ذات يوم لأعاقر الخمرة وأقرض الشعر قل لحبيبتي ليلى ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين إنني مريض ومشتاق لها دمشق يا عربة السبايا الوردية وأنا راقد في غرفتي أكتب وأحلم وأرنو إلى المارة من قلب السماء العالية وفي حوار نادر ومهم مع الشاعر يوسف الخال سنة 1985، أثناء رحلة العلاج الأخيرة في فرنسا، حيث أجرى الحوار «جاك أماتائيس»، يتحدث الخال عن الماغوط عندما جاء إلى مجلة الشعر قائلا: «ما شفناه إلا إجا»، وهناك كثير من الأدباء من الشام يأتون إلى بيروت. كان قومياً سورياً، يتردد إلى بيروت. استأجرت له غرفة وسريراً ليدبر حاله. لا أعرف، ولكن عندما يعمل المرء شغلة حلوة لا تعرف من أين يأتي الناس. وعند سؤاله عن ابتعاد الماغوط عنه، يجيب الخال: في فترة معينة. نعم، كتب مقالة ضدي في جريدة «الأنوار». أذكرها تماماً. بدو يشتغل. أقول له: يا محمد اشتغل. ما بيشتغل، لا يعرف الفرنسي ولا الإنكليزي. يمكن صار يعرف فيما بعد. برز في المقالات الساخرة والهزلية. هو شاعر وليس كاتب مقالات صحافية أو أدبية. لما ضاق به الحال راح يفتش عن عمل بجد، صرنا نساعده ووجدنا له عملا في جريدة الزمان، التي يحررها رفيق معلوف. اشتغل بتصحيح البروفات، لا يكتب. يأخذ معاشاً ولا يكتب، ثم أقفلت الجريدة. عاد يبحث عن عمل، قصد الأنوار. قالوا له: أنت مع مجلة شعر، والمجلة صوفتها حمراء، لازم تكتب ضدهم. نهار الأحد تغدينا معا، ويوم الثلاثاء طلع المقال في الأنوار؛ يهاجم ويقول «إنني ذهبت إلى مؤتمر الأدب العربي في روما. جئت إليكم وفي أنفي رائحة الإبل»، وما عاد يتردد إلي كعادته! استحى على ما أظن. وفي عام 1961، سافرت إلى الكويت، وكان يشتغل هناك، ولما عرف لم يتركني دقيقة في الكويت، من لحظة وصولي إلى يوم سفري؛ كأنه يكفر عن ذنوبه. لم أقل له شيئاً، ولا هو قال. إلى اليوم محمد الماغوط صديقي، ودائما يذكرني ويكتب. ومما يجب ذكره في مرحلة الخمسينيات تلك المقالة المشهورة التي حملت عنوان «ذكراك في قلبي إلى الأبد»، التي نشرها في مجلة «الدنيا» الدمشقية في 29 سبتمبر عام 1950، وقد وجهها إلى زعيم الحزب القومي ومؤسسه أنطون سعادة في ذكرى اغتياله في 8 يوليو 1949، كانت باكورة منشوراته الحزبية و»المقالية»، كما وصفها الحزب السوري القومي الاجتماعي. «حزن في ضوء القمر» أنجز الماغوط في نهاية الخمسينيات مجموعته الشعرية «حزن في ضوء القمر»، وأصدرها عام 1959، وتضم عددا من القصائد منها: جنازة النثر- أغنية لباب توما- المسافر- الشتاء الضائع- رجل على الرصيف- تبغ وشوارع- جفاف النهر- الغرباء- الخطوط الذهبية- حريق الكلمات- وداع الموج وغيرها. ويقول في قصيدة حريق الكلمات: أيتها الصحراء إنك تكذبين لمن هذه القبضة الأرجوانية والزهرة المضمومة تحت الجسر؟ لمن هذه القبور المنكسة تحت النجوم هذه الرمال التي تعطينا في كل عام سجناً أو قصيدة؟ عاد البارحة ذلك البطل الرقيق الشفتين ترافقه الريح والمدافع الحزينة ومهمازه الطويل، يلمع كخنجرين عاريين أعطوه شيخاً أو ساقطة أعطوه هذه النجوم والرمال اليهودية أيها الطفل الأحدب الجميل أصابعي طويلة كالإبر وعيناي فارسان جريحان لا أشعار بعد اليوم إذا صرعوك يا لبنان وانتهت ليالي الشعر والتسكع سأطلق الرصاص على حنجرتي وفور صدور الديوان كتبت خالدة سعيد دراسة عنه ونشرتها في مجلة شعر، فقامت نازك الملائكة بكتابة دراسة عن قصيدة النثر ضمنتها رداً قوياً على دراسة خالدة سعيد، ونشرتها في «الآداب»، اعتبرت فيه أن قصيدة النثر «بدعة»، وأن «دعواها ركيكة فارغة من المعنى»، ولا «مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية ولا للأمة العربية نفسها» فيها. وحين راحت تعرف مضمون «دعوى» تلك القصيدة قالت: إن «ما جاء في مقال كتبته السيدة الأديبة خزامى صبري عن كتاب نثر فيه تأملات وخواطر لأديب لبناني ناشئ». أما خزامى صبري فهي خالدة سعيد، حيث إنها كانت توقع بهذا الاسم، وأما الأديب (اللبناني) الناشئ فهو محمد الماغوط. فردت «شعر» بدورها على نازك، مفصلة في الرد أنواع الشعر، وبخاصة النوع الذي يكتبه الماغوط. كذلك ترد الملائكة على جبرا إبراهيم جبرا الذي اعتبر أن شعر المستقبل هو الشعر الخالي من الوزن والقافية كليهما، وأن محمد الماغوط وتوفيق صايغ وهو-أي جبرا ذاته- من بين الشعراء العرب الذين يكتبون هذا النوع. إن نازك الملائكة لا تتصور شعراً بلا تفعيلة، لأن هذه هي التي تمنح القصيدة شرعيتها، من حيث إنها تجعلها منتسبة لبحور الشعر العربي الكلاسيكي، التي اكتشفها الفراهيدي. خالدة سعيد... «خزامى» النقد وأيقونته كاتبة وناقدة وأكاديمية سورية. ولدت في مدينة مصياف بمحافظة حماة، ودرست الأدب العربي في دمشق، ثم في الجامعة اللبنانية في بيروت، وحازت على شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة «السوربون» في فرنسا. كتبت باسم «خزامى صبري» في البدايات، لكنها وقعت أول كتاب لها باسم خالدة سعيد سنة 1959 لتصبح من أهم الناقدات في العالم العربي، وأطلقت عليها صحيفة «النهار اللبنانية لقب «أيقونة النقد العربي الحديث في بلادنا»، أما صحيفة الحياة اللندنية فوصفتها بـ«شاعرة النقد العربي»، وهي شقيقة الفنانة السورية الراحلة مها الصالح وشقيقة سنية صالح زوجة الشاعر محمد الماغوط. من أهم مؤلفاتها: «البحث عن الجذور» 1960، «حركية الإبداع» 1982، «المرأة التحرر الإبداع» 1991، وشاركت في كتب عدة مع زوجها الشاعر السوري أدونيس: «عبد الرحمن الكواكبي» 1982، «الإمام محمد عبده» 1983، «الشاعر أحمد شوقي» 1983.

مشاركة :