يشهد العالم اليوم ثورة صناعية فائقة التقدم لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل، فهي قمة ما توصلت إليه الإنسانية من إبداعات في مختلف العلوم والفنون وهي طفرة هائلة في مزيج من الثورات العلمية والتكنولوجية في المجالات الهندسية والعلوم والمعارف والإبداعات والاكتشافات العلمية المختلفة، وهي ثورة غيرت وستغير العالم وتقوده إلى مستقبل لا يمكن التنبؤ به وتحديد معالمه على وجه الدقة، إلا أنه من المعروف أن من سيساهم في بنائها اليوم ويكون شريكا في تطويرها سيكون له مكان في مستقبلها والاستفادة من نتائجها ومنتجاتها التي ستعم البشرية جميعا, أو كما يقول بيتر دركر «إن أفضل طريقة لتوقع المستقبل والاستفادة منه هو المشاركة في بنائه». ظهر المصطلح لأول مرة عام 2011 من قبل الحكومة الألمانية التي ذكرت المصطلح (الصناعة في طورها الرابع)، ضمن خطتها الاستراتيجية، ولكن أول من أطلق عليها الثورة الصناعية الرابعة (كلاوس شواب) المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي في مستهل أعمال المؤتمر المنعقد في دافوس بسويسرا لعام 2016م، والذي أكدها في كتابه الذي أثار ضجة واسعة النطاق في الأوساط الاقتصادية والذي حمل عنوان (الثورة الصناعية الرابعة) والصادر في عام 2016م. ويمكن تعريف الثورة الصناعية الرابعة كما عرفتها كلية الأعمال بجامعة هارفرد بأنها هي الموجة الصناعية الجديدة التي تعتمد على الصناعة في طورها الرابع من حيث استخدامها للتقنية المتقدمة في مجالات جديدة, لاسيما التكنولوجيا الحديثة في مجالات جديدة مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطابعات ثلاثية الأبعاد وانترنت الأشياء وغيرها، واستخدام هذه التكنولوجيا في الحياة اليومية، وفي مجال الصناعات الحديثة التي تعتمد بدرجة كبيرة في مجال الإنتاج على الإنتاج الرقمي وتوظيف التكنولوجيا الرقمية في ذلك. وكما هو معروف فقد مرت الصناعة بثلاث ثورات قبل الرابعة وهي: الثورة الصناعية الأولى: والتي بدأت مع بدايات القرن الثامن عشر وإلى غاية القرن التاسع عشر، امتدت الثورة الصناعية الأولى من 1760 إلى 1840. وكانت الطاقة البخارية والمحرك البخاري هي المحرك لهذه الثورة الصناعية, والتي اعتمدت على الفحم والفحم الحجري كوقود لإنتاج الطاقة. الثورة الصناعية الثانية: التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر (1870م) وحتى بداية القرن العشرين وتحديدا ما قبل الحرب العالمية الأولى، والتي تم فيها اختراع محرِّك الاحتراق الداخلي الذي أحدث ثورة في صناعة النقل، كالسيارات والطائرات وغيرها, والذي يعتمد على البترول كمصدر أساسي للطاقة. الثورة الصناعية الثالثة: التي بدأت منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين (2010)، والتي اعتمدت على التكنولوجيا الرقمية والحاسب الشخصي وتقنيات الاتصالات والإنترنت. الثورة الصناعية الرابعة: وهي التي نشهد إرهاصاتها حاليا، والتي تستند أساسا على الثورة الرقمية والتي أصبحت التكنولوجيا جزءا أساسيا من حياة الإنسان وتطوره. يصف كلاوس شواب (2016) في كتابه «الثورة الصناعية الرابعة» كيف أن هذه الثورة الرابعة تختلف اختلافاً جوهرياً عن الثلاثة السابقة، التي تميزت بشكل رئيسي بالتقدم التكنولوجي. تتمتع هذه التقنيات بإمكانيات كبيرة للاستمرار في توصيل مليارات الأشخاص إلى الويب، وتحسين كفاءة الأعمال والمؤسسات بشكل جذري، والمساعدة في تجديد البيئة الطبيعية من خلال إدارة أفضل للأصول. ويصف بعبارةٍ سهلة: الثورة الصناعية الثالثة تمثِّل الرقمنة البسيطة، أما الرابعة فتمثِّل الرقمنة الإبداعية القائمة على مزيجٍ من الاختراقات التقنية المتفاعلة تكافلياً عن طريق خوارزميات مبتكرة. ويرسم كتاب صادر عن المؤسسة الاستشارية برايس ووتر كوبر (PWC)، بعنوان الثورة الصناعية الرابعة: المؤسسات الصناعية الرقمية (2016) إطارا عاما للثورة الصناعية الرابعة ومكوناتها، يؤكد أن الثورة الصناعية الرابعة عبارة عن اندماج بين ثلاثة من التخصصات وهي الفيزيائية والرقمية والبيولوجية، ويؤكد أن التخصصات الرقمية تمثل الجزء المهم والأساسي فيها. ومن هذه التخصصات تدخل الموضوعات التي تشكل بنية هذه الثورة والتي منها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وانترنت الأشياء والبيانات الضخمة والطباعة ثلاثية الأبعاد والطائرات بدون طيار والطاقة المتجددة. بالإضافة إلى تكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الجينية والحوسبة الكمومية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، أجهزة الاستشعار الذكية، أجهزة الهاتف المحمول. ولعل من أبرز مكوناتها إنترنت الأشياء، النانو تكنولوجي، والحوسبة الآليَّة، والذكاء الاصطناعي، والطباعة ثلاثيَّة الأبعاد، الهندسة الجينيَّة، تحليل البيانات الكبيرة والخوارزميات المتقدمة، والواقع الافتراضي والواقع المعزز، وتكنولوجيا كشف المواقع. ستتيح الثورة الصناعية الرابعة فرصا كبيرة للاستثمار وجذب الأموال إلى المنطقة حيث تقدر أموال الاستثمار بها, كما أكدت العديد من التقارير, أنها ستحقق مليارات من الدولارات لكل الشركات العاملة في هذا المجال وفي تطويره، حيث ستظهر قطاعات جديدة للعمل والإنتاج تعتمد على التحول الرقمي في المنتجات والخدمات والتسويق والوصول إلى العملاء وظهور قطاعات ووظائف جديدة ستتيح الآلاف من الفرص للقوى العاملة. لكن استهداف هذه القطاعات مبكراً على المستوى المحلي والدولي وتعزيزها استباقياً هو المطلوب للاستفادة منها وحصد نتائجها وثمراتها. وبما ستتيحه هذه الثورة من ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وتخفيض التكاليف وتحسين الجودة في الإنتاج وكذلك تقديم خدمات أوسع للناس وفرص للاستثمار أكبر مما سيزيد من مستوى الدخل في مختلف دول العالم وتحسين نوعية الحياة لأفراد تلك الدول. كما أن تطبيقاتها ستشمل مختلف جوانب حياتنا من الرعاية الصحية من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي في متابعة الحالة الصحية للفرد وإجراء العمليات واقتراح أساليب العلاج المناسبة للفرد. ومن التطبيقات في مجال الهندسة والبناء من خلال إنشاء البيوت والمباني من خلال الطابعات ثلاثية الأبعاد في فترة زمنية قصيرة جدا. ومن التطبيقات في حياتنا المنزلية من دخول الأجهزة الذكية وربطها بالحاسوب كالثلاجة والتلفزيون وغيرها، وكذلك في سرعة انجاز المعاملات الحكومية وكذلك إنجاز المعاملات التجارية والمصرفية وسرعة التحويلات المالية والتعامل مع العملات الرقمية من خلال توظيف البلوكشين وسرعة التوصيل والخدمات اللوجستية من خلال الطائرة بدون طيار وغيرها من آلاف التطبيقات التي ستتم في حياتنا نتيجة هذه الثورة الصناعية الرابعة فائقة التطور. وكذلك من أهم التطبيقات ستكون في مجال التعليم والتعليم العالي وخاصة توظيف الذكاء الاصطناعي في العديد من التطبيقات التربوية من تفريد التعليم ليناسب كل طالب على حدة بحسب قدراته وإمكانياته ومن توظيف المعلومات الضخمة المتوفرة في تطوير العملية التعليمية ومن إدارة الموارد والإمكانيات البشرية والمادية وتوظيفها بأفضل صورة ممكنة لخدمة العملية التعليمية التعلمية. كل هذه إرهاصات للثورة الصناعية الرابعة والتي لا نعلم ولا نملك حتى اليوم تصورا دقيقا عن تأثيرها وأثرها على الأفراد والأسر والمجتمعات، ولكن حتما سيكون أثرها كبيرا وعميقا وغير مسبوق، بعمق وعدد وسرعة ابتكاراتها وتفاعلاتها مع المجتمعات البشرية. وهذا يوجب علينا الوقوف والنظر في الكيفية التي سيستجيب لها التعليم العام عموما والتعليم العالي وجامعاتنا خصوصا نحو هذه التغيرات القادمة والمتسارعة، بل ويحتم علينا الاستعداد وإعداد جامعاتنا وطلابنا للولوج في هذه الثورة والتأقلم معها والاستفادة منها وتسخير منتجاتها والفرص التي تحملها لخدمة بلادنا وتطور مجتمعاتنا. ولعل أهم جهة من جهات المجتمع والمسؤولة عن رسم سياسات وإجراءات التعامل مع هذه الثورة الصناعية هي الجامعات بما تحمله وتحتويه من طاقات بشرية مؤهلة تأهيلا عاليا، وأفكار تطويرية، ومراكز أبحاث علمية، وأجيال واعدة يتم إعدادها للمستقبل ولتعيش عصر الثورة الصناعية الرابعة، فهل جامعتنا فعلا مؤهلة ومستعدة لتحمل الدور الريادي لأخذ المجتمع نحو الثورة الصناعية الرابعة، وما هي أبرز الخطوات التي يجب أن تأخذ في هذا المجال. كل هذه التساؤلات ما سنتناوله في المقال القادم لتحديد وكيفية استعداد جامعاتنا للتعامل مع الثورة الصناعية الرابعة القادمة والتي نعيش اليوم إرهاصاتها الواضحة. khalidbQ@gmail.com
مشاركة :