تناولنا في المقال السابق تعريف الثورة الصناعية الرابعة ومكوناتها وأهميتها لنا، ونستكمل في هذا المقال كيفية تعامل جامعاتنا معها والاستعداد لها. فالثورة الصناعية الرابعة تكتسح اليوم مجتمعاتنا وتدخل في مختلف أروقة حياتنا من دون استئذان في حركة سريعة ونمو مطرد، وستحيط بنا مستقبلا بصورة مطردة من كل جانب وستفرض نفسها على واقعنا الحياتي والتعليمي، فإما أن نكون مستعدين للتعامل معها والاستفادة من كل منتجاتها ونتائجها والمشاركة في تطويرها وتوظيفها بما يعود علينا وعلى مجتمعاتنا بالخير وإما أن نكون عالة عليها مستهلكين لها من دون وعي ولا إسهام منا في تطويرها وتوظيفها في جوانب حياتنا المتعددة. يقول كلاوس شواب - المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي في كتابه تقرير المخاطر العالمية، 2017: «نحن نقف على شفا ثورة تكنولوجية كبيرة ستغير بشكل أساسي الطريقة التي نعيش بها ونعمل بها ونربط الأشياء ببعضها بعضا. ما نواجهه يختلف في الحجم والنطاق ومستوى التعقيد، سنشهد تحولا على خلاف ما شهدته البشرية من قبل. نحن لا نعرف حتى الآن كيف ستتكشف الأمور في المستقبل، ولكن هناك أمر واحد واضح وهو أنه يجب أن تكون الاستجابة لهذه الثورة الرابعة متكاملة وشاملة، تشمل جميع أصحاب المصلحة في النظام العالمي، من القطاعين العام والخاص بما في ذلك الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني». ولعل من أهم الحقول التي يمكن الاهتمام من خلالها بهذه الثورة الصناعية وتبنيها والإضافة عليها هو حقل التربية والتعليم العالي تحديدا، فهي الأرض الخصبة التي من خلالها يمكن إنتاج الأفكار والبناء على الابتكارات ورسم الاستراتيجيات لمواجهة التحديات المجتمعية التي ربما تنتج عن تبني مثل هذه الثورات العلمية، واعدا الأجيال للتعامل معها وتوظيفها في حياتهم. ولكي نستفيد من هذه الثورة الصناعية في أنظمتنا التعليمية علينا القيام بثلاث خطوات أساسية في ذلك وهي التوظيف والإعداد والمساهمة في التطوير، ويمكن الكلام بإيجاز عن كل نقطة من هذه النقاط: أولاً: الإعداد والمقصود بالإعداد هو إعداد الطلبة في التعليم العام وفي التعليم العالي والجامعات تحديدا لتوظيف واستخدام والتأقلم مع منتجات الثورة الصناعية الرابعة في حياتهم وفي تعليمهم ليعيشوا واقعهم ويتكيفوا مع عصرهم. وهذا ما يحتم علينا إعادة النظر في المناهج الدراسية وتضمين مفردات وعناصر الثورة التكنولوجية الرابعة فيها مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والجينوم البشري والنانو تكنولوجي والطباعة ثلاثية الأبعاد وغيرها من المنتجات التي تشكل الثورة الصناعية الرابعة. بالإضافة إلى النظر في مناهج الفيزياء والتكنولوجيا والبيولوجيا وهي المناهج الأساسية التي تعتمد عليها هذه الثورة ومحاولة تجديدها وتطويرها بما يلائم العصر والتطورات الكبرى التي حدثت على هذه التخصصات. ويمكن أن يكون تضمين أدوات ومفردات الثورة الصناعية الرابعة في المناهج الدراسية، إما من خلال مناهج منفردة بهذه الموضوعات أو أن تكون عبر كل المناهج الدراسية كموضوعات تدخل في مختلف التخصصات. ويأتي من الإعداد إعداد المعلمين لتنشئة الطلبة للتعامل مع هذه الثورة الصناعية سواء على مستوى التعليم العام أو التعليم العالي، وهذا يتطلب إعادة النظر في مناهج إعداد المعلمين، وأساتذة الجامعات من خلال مراكز أساتذة الجامعات الموجودة في معظم الجامعات اليوم، حتى يكونوا مؤهلين لإعداد الطلبة للتعامل مع هذه الثورة الصناعية، فمن المهم جدا أن تشمل مناهج الإعداد مفردات الثورة الصناعية وكيفية التعامل معها وتوظيفها أثناء الدراسة، وكذلك تأكيد المهارات المناسبة للتعامل مع هذه الثورة الصناعية، بالإضافة إلى استخدام طرق تدريس مغايرة للتي تستخدم حاليا مثل طريقة الصف المقلوب أو التعليم التعاوني أو التعليم القائم على المشاريع والتعليم القائم على حل المشكلات أو استخدام القصة الرقمية (Transmedia Storytelling) أو استخدام أسلوب التلعيب (Gamification) وغيرها من طرق وأساليب التدريس الحديثة. ويأتي كذلك من الإعداد إعداد المؤسسات التعليمية والجامعات وتهيئتها لتسهيل تنشئة الطلبة وتهيئتهم للتعامل مع هذه الثورة الصناعية وذلك من خلال توفير الأجهزة والمعدات والبرامج اللازمة في هذا المجال. بالإضافة إلى تأكيد تنمية المهارات الأساسية التي سيحتاج إليها الطلبة للتعامل مع هذه الثورة الصناعية والتي تطرقت لها العديد من الأدبيات في هذا المجال. حيث إن سوق العمل يتطلب اليوم مهارات مختلفة عن تلك التي عرفتها الإنسانية في الثورة الصناعية الثالثة حيث كانت تكنولوجيا المعلومات هي المحرك الرئيسي. ولعل من أبرز المهارات التي تحتاجها اليوم الثورة الصناعية الرابعة مهارات التفكير النقدي، وإدارة الأفراد، والذكاء العاطفي، والقدرة على إصدار الأحكام، والقدرة على التفاوض، والمرونة المعرفية، وكذلك المعرفة الإبداعية ومهارات التفكير العلمي والمهارات الأكاديمية والاجتماعية والتخصصية المختلفة، أو ما يسمى اليوم بمهارات القرن الواحد والعشرين. وستحتل المهارات مكانة كبيرة في المستقبل ولذا وجه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لفروع حكومته الفيدرالية قراره القاضي بالتركيز على المهارات بدلا من الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين. كما أعلنت العديد من الشركات الكبرى في العالم أن العمل لديها لم يعد يتطلب بالضرورة الحصول على شهادة جامعية مثل «آبل» و«جوجل» و«آي.بي.إم» خصوصاً في المناصب التقنية والإدارية، وهناك قائمة شملت أكبر 15 شركة في أمريكا غيرت سياساتها التوظيفية باعتماد المهارات وتفضيلها على الشهادات العلمية بل اعتمدت شركة برايس ووتر هاوس كوبر على خريجي المدارس الثانوية في مجال المحاسبة والتحليل المالي وتقييم المخاطر، بعد تلقيهم الدورات التدريبية المناسبة وإثبات كفاءاتهم. كما يجب أن تعد مؤسسات التعليم العالي طلبتنا اليوم لوظائف المستقبل المرتبطة وإلى حد كبير بالثورة الصناعية الرابعة. فقد ذكر تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2016 أن هناك سبعة ملايين وظيفة ستختفي لأنها ستصبح عديمة الجدوى حيث سيحل محلها الروبوت والذكاء الاصطناعي، وستتوفر 2 مليون وظيفة جديدة مرتبطة بالتكنولوجيا والرياضيات والهندسة. ويذكر تقرير مؤسسة استشراف المستقبل (وظائف المستقبل بعد عام 2040) عدد من الوظائف الجديدة منها: أخصائي تحليل بيانات، مطور تطبيقات ذكية، أخصائي نانو تكنولوجي، أخصائي ذكاء اصطناعي، أخصائي أمن وحماية المعلومات سيبراني، الطباعة ثلاثية الأبعاد، الطاقة البديلة والمتجددة، أخصائي واقع افتراضي ومعزز، أخصائي حوسبة سحابية، أخصائي التعليم الذكي، مخطط مالي، مستشار شخصي، التسوق الإلكتروني، البعد الدولي، أخصائي إنترنت الأشياء، أخصائي البلوكتشين، الطب الجينومي. ثانيا: التوظيف والمطلوب من أنظمة التعليم العام ومؤسسات التعليم العالي الاستفادة من منتجات الثورة الصناعية وتوظيفها في تطوير المؤسسات التعليمية، فهناك العديد من مكونات الثورة الصناعية التي يمكن توظيفها في التعليم بصورة عامة والتعليم العالي والجامعات تحديدا مثل تحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وغيرها من أدوات الثورة الصناعية الرابعة حيث يمكن توظيفها في تشغيل وتطوير الأنظمة الإدارية وزيادة كفاءة المؤسسات التربوية والمساهمة في تقديم تعليم أفضل للطلبة، وفي جودة المخرجات التعليمية، وفي سمعة المؤسسات التعليمية المواكبة للعصر وتطوراته. ولتدريب العاملين وجميع المنتمين إلى تلك المؤسسات بما فيهم الطلبة على التعامل والتأقلم مع منتجات وأدوات الثورة الصناعية الرابعة التي سيعيشونها في واقعهم والتي ستصبح جزءا من حياتهم ومن متطلبات إعدادهم للحياة بعد الانتهاء من تعليمهم الجامعي. ثالثا: التطوير وهذا دور مهم يجب أن تقوم به الجامعات ومؤسسات التعليم العالي من خلال المساهمة بفعالية في بناء وتطوير أدوات الثورة الصناعية الرابعة المتعددة والدخول في مجالاتها المختلفة حتى لا نكون مستهلكين فقط لما ينتجه الآخرون وإنما مساهمين في إنتاج المعرفة والتكنولوجيا من أوسع أبوابها من خلال الإمكانيات المادية والبشرية الكبيرة التي تعج بها جامعاتنا في مختلف دول الوطن العربي وخاصة مراكز الأبحاث في الجامعات، حيث يشير الباحث د. نبيل المحيش، في مجلة القافلة، لعام 2019، إلى أن عدد المراكز البحثية في الوطن العربي يتجاوز 300 مركز، وهناك 1000 منظمة لها علاقة بالبحث والتطوير، ويوجد 000’100 عالم وباحث، وأكثر من 200 جامعة. فيفترض أن يكون لمراكز الأبحاث والعلماء في الوطن العربي وخاصة الجامعات من أصحاب التخصصات العلمية الدقيقة مساهمات في تطوير أدوات الثورة الصناعية المختلفة في المجال الفيزيائي والتقني والبيولوجي بل وتدريب الباحثين الشباب وطلاب الدراسات العليا على العمل في هذه المجالات محاولة لتطويرها وتوظيفها في مجتمعاتنا العربية. تعد المنابر العلمية اليوم وعلى رأسها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ومراكز الأبحاث بها والأكاديميون والباحثون المنتمون إليها هي المعنية بالدرجة الأولى بقيادة المجتمعات والتحولات المجتمعية وتحديد معالم المستقبل نتيجة للثورات العلمية الهائلة فيه والتي لها دور رئيس في قيادتها وتطويرها والاستفادة منها وجني ثمارها. فمن خلال الدراسات الجادة والكثير من الاختراعات والابتكارات العلمية تأتي من مراكز الأبحاث الجامعية التي ينتسب إليها الكثير من العلماء والباحثين، ولذا ينظر إلى هذه الجامعات أنها مصدر من مصادر التغيير في العالم وقيادة الإنسانية لحل مشكلاتها والتنبؤ بمستقبلها في ظل التغيرات العلمية ومن الثورة الصناعية الرابعة. وليتم هذا هناك حاجة إلى توفير المناخ والبيئة الملائمة لهؤلاء للإنتاج بالإضافة إلى توفير الإمكانيات المادية والتحفيز والتقدير الذي يستحقونه من أجل دفع هذه المجتمعات نحو التطور وتعزيز الابتكار والاختراع في هذه المؤسسات وتطوير القائم منها. khalidbq@gmail.com
مشاركة :