يجب أن تكون مقاربة بايدن الجديدة تجاه كوريا الشمالية كفيلة بدفع الصين إلى إبداء استعدادها لتعاون شامل أو تعطيل الجهود الحاصلة، واستناداً إلى الوجهة التي تختارها الصين، تستطيع الولايات المتحدة أن تقرر ضمّ بكين إلى جهودها السياسية تجاه كوريا الشمالية أو استبعادها منها. تواجه الإدارة الأميركية الجديدة مشكلة مألوفة، فقد بدأت كوريا الشمالية اختبار الصواريخ مجدداً، بما في ذلك الصواريخ البالستية، بما يخالف قرار مجلس الأمن، ولكن بدل تعديل المسارات العقيمة، تعهدت إدارة الرئيس جو بايدن بإعادة النظر في تعاملها مع كوريا الشمالية، وحرصت على إثبات اختلافها عن الإدارة السابقة عبر إبداء استعدادها للتشاور مع حلفاء واشنطن وشركائها تمهيداً لإطلاق رد قوي تجاه بيونغ يانغ لكن من دون استبعاد الجهود الدبلوماسية. قد يكون تغيير الوجهة الأميركية بهذا الشكل مرحّباً به، لكن إذا أرادت الإدارة الجديدة أن تُحدِث اختراقاً معيناً في ملف كوريا الشمالية، فيجب أن تعيد النظر في الفرضيات التي ورثتها عن الدور الصيني هناك، حتى الآن يتمسك فريق بايدن بالفكرة القديمة القائلة إن الولايات المتحدة والصين تتقاسمان مصلحة مشتركة تتمثّل في نزع الأسلحة النووية الكورية الشمالية، حتى أنه يعترف بضرورة الاستفادة من تأثير الصين الهائل على حكومة بيونغ يانغ، وقد أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال زيارته إلى سيئول في الأسبوع الماضي: «ستستفيد بكين بكل وضوح من جهود نزع الأسلحة النووية في كوريا الشمالية لأن هذه الأسلحة هي جزء من أسباب زعزعة الاستقرار»، وفي الوقت نفسه، أشاد بلينكن بدور الصين «المحوري» و»علاقتها الفريدة من نوعها» مع كوريا الشمالية. لكن أثبتت بكين طوال ثلاثة عقود تقريباً أن مصلحتها الحقيقية تقضي بالحفاظ على الوضع القائم اليوم، ولا تريد الصين أن تضعف كوريا الشمالية مقابل زيادة قوة الولايات المتحدة في شبه الجزيرة الكورية، لكنها لن ترغب أيضاً في أن ترجح الكفة لمصلحة كوريا الشمالية لدرجة أن تضطر الولايات المتحدة لتعزيز موقعها العسكري. تطبّق الصين إذاً مقاربة حذرة لإبقاء خيار نزع الأسلحة النووية بطريقة سلمية وارداً، لكن من دون استفزاز بيونغ يانغ أو زيادة توتّر علاقاتها مع الولايات المتحدة. إذا لم تبذل بكين أي جهد لتسهيل عملية نزع الأسلحة النووية، فقد تخسر الولايات المتحدة ثقتها بالدبلوماسية وتقرر تكثيف وجودها العسكري في شبه الجزيرة أو حتى إطلاق تحرك عسكري، لكن إذا بذلت بكين جهوداً كبرى لمساعدة الولايات المتحدة، فقد تنهار كوريا الشمالية وتصبح شبه الجزيرة كلها جزءاً من المحور الأميركي، ولهذا السبب ترتكز سياسة الصين تجاه كوريا الشمالية على توازن دقيق، إذ تحاول بكين بهذه الطريقة أن تحافظ على تأثيرها على نظام كيم جونغ أون لكن من دون أن تزيد قوته وجرأته، وتسعى إلى المشاركة في جهود متعددة الأطراف للضغط على كوريا الشمالية عبر برنامج عقوبات الأمم المتحدة مثلاً، لكن من دون تعريض بيونغ يانغ لضغوط قادرة على تسريع انهيار النظام، كذلك قد تمنح الصين واشنطن ما يكفي من الأمل للتوصل إلى حل دبلوماسي لإبطاء التدخل العسكري المحتمل واتخاذ قرارات تضمن زيادة قوة الصين، لا الولايات المتحدة. لطالما شكّكت بكين في خيار استعمال العقوبات لإجبار كوريا الشمالية على الالتزام بالشروط المطلوبة منها في الملف النووي، فعبّرت عن قلقها من احتمال أن يُضعِف كيم جونغ أون الجهود الدولية إذا تعرّض لضغوط مفرطة، فحين فرضت الأمم المتحدة عقوبات في عام 2017، حرصت الصين في البداية على تنفيذها بكل صرامة، ثم عادت بكين إلى تصرفاتها الاعتيادية سريعاً، فتعاونت مع موسكو لمحاولة تخفيف العقوبات المفروضة، كذلك، يُقال إن الصين انتهكت القواعد المعمول بها عبر تزويد كوريا الشمالية بـ22 ألفا و730 طنا من النفط المُكرر ومساعدتها في تصدير الفحم بقيمة 370 مليون دولار. منذ ثلاثة أشهر، اتّهمت الولايات المتحدة الصين علناً بالتحايل على العقوبات لمساعدة كوريا الشمالية، لكن أنكرت الصين هذه التهمة. تشتق سياسة بكين تجاه كوريا الشمالية من رغبتها في التصدي للنفوذ الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتعزيز النفوذ الصيني في شبه الجزيرة الكورية، ومن الواضح أن المشكلة النووية تعطي بكين العذر الذي تحتاج إليه لدعوة الولايات المتحدة إلى تقليص وجودها العسكري ونشاطاتها في شبه الجزيرة على اعتبار أن كوريا الشمالية ستوقف تطوير الأسلحة إذا شعرت بأنها لم تعد مُهددة. لا تريد بكين أن تندلع أي حرب في شبه الجزيرة، فقد يؤدي أي صراع مماثل إلى زعزعة استقرار المنطقة وتوحيد الكوريتَين بضغطٍ من الولايات المتحدة في نهاية المطاف، وأدت مقاربة ترامب الهجومية واستعداده لمقابلة كيم مباشرةً إلى إضعاف قدرة الصين على التوفيق بين واشنطن وبيونغ يانغ لتوسيع هامش مناوراتها، فقد كان احتمال أن تُسقِط الولايات المتحدة النظام الكوري الشمالي كفيلاً بإقناع بكين بتقوية روابطها مع كيم وفرض ضغوط حقيقية على حكومته، لكن القمة الأخيرة التي جمعت بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ، في فبراير 2019 كانت فاشلة بامتياز، وبدا كأن إدارة ترامب لم تعد تُركّز على نزع الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية وسرعان ما عادت بكين إلى مقارباتها الاعتيادية. لإطلاق مسار جديد تجاه كوريا الشمالية، يجب أن تزعزع إدارة بايدن توازن بكين مجدداً، فلم يعد الوضع الراهن مقبولاً، إذ تستطيع بكين اليوم أن تزيد تأثيرها على مستقبل شبه الجزيرة وتُحسّن صورتها على الساحة الدولية تزامناً مع إضعاف السياسة الأميركية تجاه كوريا الشمالية، وأمام هذا الوضع، يجب أن تجد الولايات المتحدة التوازن الذي يناسبها، حيث تُحرز التقدم المنشود لتقليص التهديدات الكورية الشمالية وتثبت قوتها في المنافسة التي تخوضها مع بكين. لا يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال بذل جهود دبلوماسية متعددة الأطراف واتخاذ مقاربة تدريجية تمهيداً لنزع الأسلحة النووية عبر تجميد البرنامج الكوري الشمالي الراهن مثلاً، وسترحّب بكين بأي خطوة مماثلة لأن جهات كثيرة في الصين كانت مقتنعة بأن مطالب ترامب بنزع جميع الأسلحة النووية تترافق مع نتائج عكسية وأن تهميش واشنطن لحلفائها قد يدفع كوريا الجنوبية أو اليابان إلى تطوير قدرات نووية. تظن الصين أن المقاربة المتعددة الأطراف ستمنحها نفوذاً إضافياً للتأثير على أهم اللاعبين وتساعدها في تحقيق نتائج إيجابية. لهذا السبب، يجب أن يفكر البيت الأبيض في تطبيق مقاربة دبلوماسية تستثني الصين أو لا تعطيها مكانة متقدمة على الأقل. يُفترض أن تتماشى هذه المقاربة مع توجهات عدد كبير من مستشاري بايدن الذين يبحثون عن حل براغماتي لا يتكل على حُسن نوايا بكين، وستردّ الصين على الأرجح عبر محاولة تجديد دورها في إدارة شؤون شبه الجزيرة لتجنب استبعادها من أي اتفاق محتمل، فقد تعمد الصين مثلاً إلى توثيق علاقاتها مع كوريا الشمالية وروسيا للتأثير على السياسات المعتمدة عبر التعامل مع البلدَين كعملاء لها، وتستطيع الولايات المتحدة في هذه الحالة أن تتعاون مع حلفائها الأوروبيين لمجابهة المطالب الصينية المفرطة في بحر الصين الجنوبي أو لدعم الديمقراطيات في وجه التدخل السياسي الصيني. قد يكون التقارب المتزايد بين الصين وكوريا الشمالية مفيداً للولايات المتحدة، فعملياً، فرضت كوريا الشمالية أقسى العقوبات الممكنة على نفسها، فأغلقت حدودها بالكامل في يناير 2020 منعاً لانتشار فيروس كورونا المستجد، ونتيجةً لذلك، تراجعت العمليات التجارية مع الصين بنسبة 81%، وفي الوقت نفسه، تلاشى النفوذ الاقتصادي الصيني في كوريا الشمالية، مما يعني تراجع فاعلية العقوبات كأداة لإجبار البلد على الامتثال. قد تسعى الصين الآن إلى فرض ضغوط جديدة على كوريا الشمالية عبر تقديم حوافز إيجابية قد تستفيد منها إدارة بايدن في المراحل اللاحقة، وإذا عجزت بكين عن توثيق علاقاتها مع بيونغ يانغ، فقد تحاول التقرب من سيئول، وهو تطور إيجابي لواشنطن أيضاً لأن هذا النوع من العلاقات قد يسمح للولايات المتحدة بتعزيز التعاون العسكري مع حلفاء كوريا الجنوبية الإقليميين من دون الخوف من مواجهة رد صيني قوي. دعا بعض مستشاري بايدن، بما في ذلك كيرت كامبيل، إلى اتخاذ مقاربة أكثر جرأة، إذ تستطيع واشنطن مثلاً أن تُحوّل تركيزها من نزع الأسلحة النووية إلى الحد من التسلّح، ووفق هذا السيناريو، ستعترف الولايات المتحدة بكوريا الشمالية كدولة نووية وتتخذ التدابير اللازمة لتقوية نظام الردع ضدها عبر تعزيز الوجود العسكري الأميركي مثلاً أو تقوية التعاون العسكري مع الحلفاء الإقليميين، وفي غضون ذلك، ستجد الصين صعوبة متزايدة في إضعاف شرعية الوجود العسكري الأميركي في المنطقة وقد تضطر لبذل الجهود التي تضمن نزع الأسلحة النووية الكورية الشمالية، حتى لو تَحقق هذا الهدف مقابل زعزعة استقرار النظام القائم. باختصار، يجب أن تكون مقاربة بايدن الجديدة تجاه كوريا الشمالية كفيلة بدفع الصين إلى إبداء استعدادها لتعاون شامل أو تعطيل الجهود الحاصلة، واستناداً إلى الوجهة التي تختارها الصين، تستطيع الولايات المتحدة أن تقرر ضمّ بكين إلى جهودها السياسية تجاه كوريا الشمالية أو استبعادها منها، وفي مطلق الأحوال، من الواضح أن التمسك بالمقاربة الراهنة لا يخدم الأهداف الأميركية على مستوى نزع الأسلحة النووية والمنافسة مع الصين.
مشاركة :