بغداد مدينة لا تقبل أن تدخل حيز النسيان..لا ترضى بالتهميش على الرغم من كل ما جرى وما يجري لها.. منذ أعظم النكسات التي عاشتها بعد الاحتلال المغولي قبل ما يقرب من تسعة عقود وحتى اليوم تنهض مثل طائر العنقاء من رماد خرابها لتتألق كمدينة متجددة وحيوية.. سر نهوض هذه المدينة يكمن بأهلها.. بعشقهم لمدينتهم.. بإصرارهم على أن تبقى العاصمة العراقية دارا للسلام مثلما أرادها بانيها أبو جعفر المنصور. البغداديون يصرون على مواصلة حياتهم في العمل والإبداع والفرح متحدين كل المصاعب الأمنية والحياتية.. في هذه المشاهدات ترصد «الشرق الأوسط» إيقاع حياة بغداد ونبضها المتدفق عن قرب.. بل من عمق حياتها وحركة أهلها.. بسلبياتها وإيجابياتها. يضرب البغداديون مثلا جريئا في معنى تحديهم للصعاب وحبهم للحياة ومواصلة عملهم وأفراحهم على الرغم من كل الصعاب التي يعيشونها.. وبغداد النهار تكاد تختلف كلية عنها في الليل، إذ تزدحم الشوارع بالسيارات والمشاة كما تكتظ الأسواق والمولات والمقاهي والمطاعم، خاصة بعد أن تم إلغاء قرار حظر التجوال الذي كان يجبر الناس على العودة إلى منازلهم قبل منتصف الليل. اليوم وأنت تتجول حتى الفجر بشوارع العاصمة العراقية سوف تجد أن هناك مطاعم ومقاهي مفتوحة.. بل إن غالبية من هذه المطاعم تصدح بها أصوات مطربين شباب مع موسيقاهم وترتادها العوائل البغدادية كونها أماكن خالية من الخمور. وكان ثمة إعلان في شوارع بغداد عن حفل موسيقي للموسيقار نصير شمة بمناسبة اليوم العالمي للسلام خصص ريعه للمهجرين، أقيم على قاعة المسرح الوطني، كفيلاً بأن يزدحم الجمهور أمام شباك التذاكر، وهو جمهور منوع من جميع فئات العراقيين العمرية والطبقية، وكانت سعادة شمة كبيرة بأن جمعت موسيقى أوتار عوده «العراقيين بمختلف مشاربهم للاستمتاع بالموسيقى من جهة ودعم جمعية (أهلنا) التي يترأسها نصير شمة لدعم آلاف العوائل العراقية النازحة عن طريق بناء كرفانات مؤقتة ليقيموا فيها»، حسبما يوضح الموسيقار المعروف عالميا، الذي يضيف: «منذ 2012 وأنا أحيي في يوم السلام العالمي ومع مجموعة من الموسيقيين العراقيين حفلات موسيقية نخصص ريعها للأطفال وللمهجرين ولدعم مشاريع الشباب». ويؤكد شمة لـ«الشرق الأوسط» بأن «العراقيين تواقين لسماع الموسيقى ومتابعة الأنشطة الثقافية الإبداعية من مسرحيات ومعارض تشكيلية ومعارض كتب، وفي كل عام أجد الجمهور أكثر ازدحاما على مثل هذه البرامج، وأمس على قدر شعوري بالسعادة لازدحام الجمهور شعرت بالإحراج لعدم حصول غالبية من الذين حضروا على تذاكر الحفل، إذ لا يوجد هنا نظام الحجز عبر الإنترنت مسبقًا بل عليهم الحضور إلى القاعة وشراء التذاكر». مؤكدًا: «أني متفائل بأن الأوضاع في العراق سوف تتحسن رغم كل شيء لأن الشباب وعوا دورهم وأخذوا على عاتقهم مسؤولية إحداث التغيير ومحاربة الفساد وكشف أخطاء بعض المسؤولين في الحكومة والبرلمان وهذا ما يؤكده المتظاهرون كل يوم جمعة، وأنا أؤيد هذه التظاهرات وخرجت معهم يوم الجمعة الماضي ورددت معهم هتافات من أجل الإصلاح ومن أجل أن يأخذ الشباب فرصتهم بدلا من الهجرة إلى بحار الموت والمجهول». العوائل البغدادية تبحث عن متنفسات للهروب من واقع صعب ومعقد إلى حياة تخفف من وطأة الظروف الصعبة، ولعل في مقدمة الأماكن التي تلجأ إليها العوائل البغدادية هي المقاهي والمطاعم التي انتشرت بشكل واسع في جانب الرصافة من العاصمة العراقية، يقول المطرب الشاب إيهاب فخري حكمت الذي يغني كل مساء تقريبا في مطعم عائلي ارتبط اسمه باسم بغداد (أجواء بغداد) الواقع في حي الجادرية الراقي في الكرادة «في كل ليلة تزدحم صالات المطعم بالعوائل البغدادية التي تأتي لسماع أغان قريبة إلى نفوسها، وخصوصا الأغاني التراثية التي تذكرهم بزمن الخير والاستقرار»، مشيرًا إلى أن «هناك الكثير من المطاعم أو المقاهي التي تجتذب العوائل عن طريق الغناء وعدم تقديم الخمور، وهذا الأمر لا يقتصر على ليالي عطلة نهاية الأسبوع (الخميس والجمعة) كون الجمعة والسبت العطلة الأسبوعية الرسمية في العراق، بل في جميع أيام الأسبوع وهذا مؤشر تفاؤل بالنسبة لنا». ويوضح سعد ألبير، صاحب مطعم إيطالي الذي يقع في منطقة عرصات الهندية بأن «البغداديين تعودوا حياة السهر ولم تمنعهم التفجيرات والسيارات المفخخة من ترك بيوتهم والسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، فهنا تسهر عوائل بأكملها (الأب وزوجته وأبنائه) وهم سعداء بما يسمعونه من أغانٍ وموسيقى، وهذه المطاعم والمقاهي بعيدة كل البعد عن النوادي الليلية التي يرتادها الرجال فقط»، مشيرًا إلى أن «العائلة البغدادية تتوق للسهر في أماكن آمنة وفي الوقت ذاته تستمع لنوع هادئ وتراثي من الأغاني العراقية». وبينما كنا نتحدث مع ألبير فوجئنا بقدوم حشد من المحتفلين مع عريس وعروسته في بدلة العرس البيضاء، كان العريس عربي بينما عروسته كردية وتشابكت أيادي غالبية الحضور في دبكات عربية وكردية، حيث أوضح لؤي، شقيق العريس بأن «شقيقي كان يلتقي بعروسته خلال أشهر الخطوبة هنا في هذا المطعم لهذا قررا الاحتفال هنا». ويضيف قائلا: «نحن تعودنا على السهر والاستماع للأغاني العراقية بعيدا عن صخب ومشكلات النوادي الليلية، وغالبا ما نبحث عن أماكن آمنة نسهر بها مع عوائلنا لنخفف عن أنفسنا وطأة وضغوط المشكلات الأمنية وسوء الخدمات والظروف الاقتصادية الصعبة لا سيما وأن أسعار مثل هذه المطاعم مناسبة للطبقة المتوسطة من العراقيين». يضاف إلى هذا النوادي الاجتماعية المخصصة للعوائل فقط وخصوصًا نادي العلوية الذي أسسه الإنجليز في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي ونادي الصيد الذي أسسته مجموعة من هواة الصيد في نهاية الخمسينات، وهناك، أيضا، المقاهي الشعبية والمقاهي العامة التي تؤثث أرصفة شوارع بغداد ومقاهي الشباب. ومن المظاهر التي تدعوا للتفاؤل وتبدو بمثابة بصيص النور الذي يأتي من نهاية النفق هي انخراط الشباب هنا في منظمات المجتمع المدني التي تدعم أوجه مختلفة من الأزمات التي يعيشها العراقيون، مثل جمعيات لدعم المرأة أو الأطفال أو المعاقين وغيرها من المنظمات، وهذه ظاهرة جديدة تبرز في المجتمع العراقي، خاصة وأن المتطوعين الذين يتصدون لمثل هذه الأنشطة هم أبعد ما يكون عن السياسة أو التورط بملفات الفساد وسرقة التبرعات بل هم يدعمون أنشطتهم من جيوبهم، ومثال ذلك الشابة زينة القرة غولي، وهي تدرس في كلية الصيدلة بجامعة بغداد والتي تترأس جمعية «نحن نساعد» التي تهتم بالأيتام، تقول: «غالبية أعضاء جمعيتنا من طلبة كليتي الصيدلة والطب في جامعة بغداد إضافة إلى متطوعين من قطاعات أخرى حيث نقوم بمتابعة دور الأيتام صحيا ونفسيا وتوفير التبرعات لهم وزيارتهم والحديث معهم لإشعارهم بأنهم ليسوا وحيدين»، مشيرة إلى أن «جمعيتنا تأسست منذ ما يقرب من عامين واستطعنا أن نحقق الكثير من الإنجازات على الرغم من غياب الدعم الحكومي إلا أننا نعتمد على أنفسنا في توفير اللقاحات والفيتامينات والأدوية للأيتام الذين هم أحوج ما يكونون للدعم».
مشاركة :