نزع السيناريست الموهوب «عبد الرحيم كمال» بمسلسليه الرائعين «القاهرة- كابول» و«نجيب زكى زركش»، الذين كتب لهما القصة والسيناريو والحوار، المعروضين على الشاشات التليفزيونية فى الماراثون الرمضانى- ورقة التوت، فكشف عورات «ورش الكتابة»، والذى تفشى منذ سنوات فى المسلسلات التليفزيونية، وسعى من خلاله البعض على فن كتابة السيناريو لتحويله إلى مجرد صنعة تنتج بضاعة زائفة ومغشوشة.. يديرها أسطوات أصحاب ورش تضم رهطًا من «صبيان»، هم خليط متنافر من شباب بلا موهبة أو ثقافة أو دراسة أكاديمية متخصصة، لا يجمعهم توجه فكرى أو تيار سياسى أو رؤية فنية. أما «عبد الرحيم كمال» فقد جاء من رحم جيل الرواد الذين أثروا الشاشة الصغيرة بجواهر من إبداعاتهم الباقية فى ذاكرة الدراما التلفزيونية وفى وجدان المشاهدين.. ليكمل رحلة شاقة وشيقة بعد أن أصبح هؤلاء الكبار ضيوفًا على زماننا الضنين.. وغاب أغلبهم عن المشهد الفنى الذى صار سوقًا يرتع فيها الأرزقية.. والورشجية وعابرو السبيل.. فعاثوا فيه إسفافًا وسوقية وهزلًا ونقلوا إليه لغة الشارع البذيئة.. ولم يدركوا أن فن كتابة السيناريو إبداع فردى لا بد أن يكون مبدعه صاحب رؤية ووجهة نظر، وإلهام وروح خلاقة وخيال جامح وأسلوب مميز، مثله مثل الشاعر والروائى.. والقصاص والفنان التشكيلى ففنونهم غير جماعية. فى «القاهرة- كابول» يقدم «عبد الرحيم كمال» السيناريست «الفرد»، الذى لا تشاركه ورشة، ما يطلق عليه فى البناء الدرامى براعة الاستهلال أو مهارة صياغة المقدمة المنطقية، التى تعلن عن نقطة انطلاق الأحداث، ورسم الشخصيات بأبعادها الاجتماعية والنفسية، فى مشهد اصطلح على تسميته بالمشهد الإجبارى.. يقدم نموذجًا رائعًا لقدرة السيناريست فى مزج تاريخ هذه الشخصيات وجذورها، وتحولاتها الفكرية والإنسانية العاصفة، والمتباينة مع أزمنة تحتوى على أحداث ذات طابع توثيقى ينطلق من خلالها من الخاص للعام فى مهارة بالغة. فأصدقاء الطفولة والدراسة بحى «السيدة زينب» الأربعة الذين عاشوا نكسة (1967) ووفاة أم كلثوم ومقتل السادات.. تصطدم همومهم ومعاناتهم وأحلامهم وطموحاتهم بواقع مأزوم وأوجاع وطن جريح.. تظهر ملامح هؤلاء الأصدقاء من خلال حوارهم بعد سنوات طويلة من التباعد والغياب، بدعوة من أحدهم وهو إعلامى معروف، انتهازى متلون، يلعب على كل الأحبال، ويتحالف مع كل الأضداد (فتحى عبد الوهاب). وآخر مخرج طموح منع له فيلم ويسعى جاهدًا إلى انتزاع حقه فى عرضه (أحمد رزق).. وثالث ضابط بالأمن القومى تخصص مكافحة الإرهاب (خالد الصاوى).. ورابع متطرف يعتنق فكرًا إرهابيًا تكفيريًا ويحلم فى إطار الإسلام السياسى أن يتبوأ عرش خلافة المؤمنين. يبدأ الحوار ودودًا ناعمًا حميميًا ضاحكًا ساخرًا، فى إطار استعادة الذكريات المشتركة.. ورويدًا رويدًا يتحول إلى تنابز بالألفاظ.. وتلاسن بالعبارات فى غمز ولمز، فيكشف بعضًا من خبايا النفوس واختلاف التوجهات، وتباين الرغبات والنوايا وتفرق سبل التوافق والائتلاف، واتساع الفجوة فى الرؤية والأهداف.. وتصاعد الجدل تصاعدًا مطردًا بين الضابط الوطنى والمتطرف التكفيرى، فى مواجهة حادة تتطور إلى اتهامات متبادلة تشعل صراعًا دراميًا يحتشد بالوعيد والتربص والتهديدات السافرة.. وتبدو براعة المؤلف فى قدرته الفائقة فى تحويل الشخصيات الدرامية إلى رموز مختلفة تعكس الكيانات المتعددة.. الدولة والسلطة.. الإرهاب جذوره وأشكاله، وتنظيماته الدولية والقوة المحركة له.. الأمن ودوره الوطنى.. الإعلام.. ذلك دون أن تتحول هذه الرموز إلى أنماط جامدة تنطق بأكلاشيهات تقليدية أو خطابية زاعقة. إن شخصيات «عبد الرحيم كمال» حية ونابضة، خلقت من لحم ودم وروح وأعصاب.. لا يتدخل كمؤلف فى فرض وصايته عليها أو محاكمتها.. إنه يتأملها ويرصد سلوكها ويسبر أغوارها ويحررها من أسر ميلودراما فاجعة أو تقريرية دعائية.. أو واقعية فجة.. وهو ينسج حواره ببلاغة آسرة وسخرية عميقة تحتفى بذكاء المفارقة وتعدد مستويات الطرح. وتتضافر معه جهود مخرج موهوب استخدم بمهارة كل أدواته الفنية فى اختيار ممثليه وتوجيههم، والسيطرة على أدق تعبيراتهم وانفعالاتهم وحركتهم.. فى كادرات موحية وإضاءة مبدعة وتصوير متميز، وديكورات تتسق مع الجو العام لدلالات المشاهد. [email protected] المقال: نقلاً عن (المصري اليوم).
مشاركة :