«التراجيكوميديا»، أو «الكوميديا السوداء»، هى أرقى أنواع الكوميديا وأكثرها عمقًا، وأرحبها آفاقًا وشمولًا وتعبيرًا عن النفس الإنسانية.. وأجلها تخطيًا للأبعاد الاجتماعية والتعبير عن تناقضات الواقع وعورات الشخصيات إلى رؤية فلسفية للحياة.. وهى تمزج الملهاة بالمأساة.. وتنتزع الضحكات من قلب الألم.. والفرح من براثن الأحزان المقيمة.. والسخرية القائمة على عنصرى المفارقة وسوء التفاهم التى تشمل الهموم الإنسانية وأوجاع البشر.. وقد كان الراحل الكبير «وحيد حامد»- وهو فى يقينى أهم وأعظم مؤلف درامى وكاتب سيناريو وحوار فى تاريخ السينما المصرية- بارعًا فى رسم الضحكة فى مدائن البكاء، وموهوبًا موهبة لا حدود لها فى خلق البهجة من رحم الأيام الصعبة.. ومزج المرح الخلاب بالخبز اليومى المبلل بالخوف والدموع، ونسج عوالمه الآسرة والمثيرة من كروب البسطاء ومعاناة الفقراء. فتوحد مع شخصياته البائسة والمهزومة الباحثة عن العدل الاجتماعى، فى ظل قهر الموسرين وظلم مجتمع طبقى يضن عليهم بالحياة الكريمة، ويجبرهم على تقديم اعتذارهم عن مجرد وجودهم، ويتضح ذلك جليًا فى مجموعة أفلام باهرة لعلها من أجمل أفلام السينما المصرية التى تظل رابضة فى الذاكرة الإبداعية، مستقرة فى الضمير الإنسانى للمتلقين، وصالحة للتعبير عن قضاياهم وصراعاتهم مع مجتمعهم؛ لانتزاع حقوقهم من تلابيب أزمنة ضنينة بالعطاء.. فكانت أفلام الإرهاب والكباب، والمنسى، وطيور الظلام، واللعب مع الكبار، والبرىء، والنوم فى العسل، والغول، وكشف المستور، وغيرها من الدرر الثمينة التى لا تنسى. فى مقال أخير يلتقط الصديق المفكر خالد منتصر أحد مشاهد مسلسل «بدون ذكر أسماء»، الذى كتبه وحيد حامد ويرصد فيه تنامى التيار السلفى وسيطرته على عقول ووجدان وضمائر شرائح اجتماعية كثيرة.. بالإضافة إلى سفاهة وتوحش رجال الأعمال، وفساد ما سمّاه الطبقة المخملية فى عهد «مبارك». المشهد يعبر عن لقطات لأحداث مسلسل دينى، يتم تصويره فى أحد الاستديوهات، يجمع بين المؤمنين والكفار.. يرفض فيه «كومبارس» أن ينضم إلى مجموعة المؤمنين، ويتوسل للمخرج أن يضمه إلى مجموعة الكفار الذين يتوسطهم «أبو جهل»، الذى يدعوهم إلى وليمة كبيرة.. قائلًا: «سايق عليك النبى خلينى مع الكفار.. أنا عاوز أبقى كافر».. المخرج فى دهشة يسمح له بذلك.. وتدور الكاميرا فينقض الكومبارس على فخدة اللحم الموضوعة على مائدة أبو جهل، ويلتهم فريسته وينسى الحوار، فالفم مزدحم والمعدة مخدرة. ويعلق على ذلك خالد منتصر بأن هذه الوليمة مع الكفار كانت هى حلم حياة هذا الكومبارس الجائع البائس. وهكذا فقد فجر «وحيد» الكوميديا من أحشاء تراجيديا الألم، فجعلنا نبكى مع الكومبارس بعد أن كنا نضحك على موقفه بالانضمام إلى الكفار. إنها «التراجيكوميديا» التى تعتمد على المفارقة المدهشة التى خلقها ذلك العبقرى المبدع. تذكرنى دلالة ذلك المشهد بموقف أقدم عليه ممثل شاب موهوب مغمور.. ظل منذ عرفته لسنوات طويلة يحدوه الأمل أن تتاح له فرصة أكبر حجمًا وقيمة من تلك الأدوار الثانوية التى حصره فيها المخرجون والمنتجون، والتى لا تكشف عن موهبته وقدراته الفنية الحقيقية دون جدوى.. ورغم ذلك كنت ألقاه دائمًا متفائلًا بوجه مشرق وهو يروى لى الكثير من معاناته، ساخرًا وضاحكًا دون مرارة أو استياء أو غضب أو حقد على آخرين أقل منه موهبة ويتمتعون بحظ وافر قادهم إلى نجومية لامعة.. إلى أن التقيت به بعد اختفاء طويل، وراعنى أن أراه وقد تغير مظهره المهندم وطالعنى بشعر أشعث وذقن مستطيلة ووجه عابس وملامح متقلصة بالوجوم والاكتئاب، فحكى لى أسباب تغيره بعد زواجه من ممثلة زميلة له، تكالب عليها أشقاء خمسة سلفيون، وأجبروها على اعتزال تلك المهنة «الحرام» وارتداء النقاب.. وقد حاول أن يثنيها عن ذلك دون جدوى.. وفى غمرة سخطه وضيقه قرر أن يثبت لها زيف فتواها وقناعاتهم المضللة وتوجهاتهم المنحرفة، فدعاهم إلى عشاء بمنزله كلفه الاستدانة ثمنًا لديك رومى توسط مائدة الطعام، فبرقت عيونهم وسال لعابهم، وما إن شمروا عن سواعدهم وهموا بالانقضاض على الديك حتى صاح فيهم مانعًا إياهم محذرًا مرددًا بنبرة فى صيحة تمثيلية: - إخوانى المؤمنون.. لا تنسوا أن هذا الديك المغرى قد ابتعته من مال حرام.. وهو ثمرة كفر بيّن أمارسه بحكم عملى كممثل أثيم. لكنهم أشاحوا بأيديهم، مهمهمين بعبارات مضغومة، تعنى التهوين من الأمر والتسامح عن الزلل الذى يرتكبه بالعمل فى الفن.. وانقضوا بسرعة فى توحش ضار، ممزقين أوصال الديك، والتهموه حتى أصبح فى دقائق معدودة هيكلًا عظميًّا. لكنهم بعدها بأيام معدودة عاودوا جهادهم المقدس، محرضين زوجته على طلب الطلاق منه.. فلا يجوز لمؤمنة طاهرة أن تبقى على ذمة كافر زنديق. [email protected] المقال: نقلاً عن (المصري اليوم).
مشاركة :