الرجل الذي باع ظهره، هو أحد الأفلام التي ترشحت للقائمة القصيرة لجوائز الأوسكار، وهو من إخراج التونسية كوثر بن هنية التي اقتبست قصته من حكاية نشرتها الصحافة عن الفنان البلجيكي ويم ديلفوا الذي وشم ظهرَ شخصٍ اسمه تيم شتاينر. وكانت الاتفاقية بينهما تقضي بأن يلتزم شتاينر بحضور معارض الفنان باعتباره لوحة، وفي حالة موته يلتزم بالموافقة على التنازل عن جلده، الذي سيعود إلى المالك. وقد اقتنصت المخرجة الشابة هذه الثيمة لتبني من خلالها بعض القضايا الفكرية المثيرة للجدل، ومنها تسليع الإنسان وجعله بمثابة تحفة فنية خاضعة لشروط السوق، كما عالجت كيف يُمكن أن يتحوّل البشر إلى عبيد، حينما يتخلون عن الوطن أو يفرّط الوطن بهم. والفيلم يتمحور حول شاب سوري اسمه وسام علي يتعلق بحبيبته عبير، وحينما كانا في القطار يبدو جريئا في مطارحتها الغرام، ثم إعلانه بين المسافرين أنه يبحث عن الحرية في الرأي، ويريد من الجميع أن يشهدوا على زواجه منها، ولكن الاستخبارات السورية تعتقله، وتحقق معه على أقواله ويتهم بأنه يشكل خطرا على البلد بأفكاره التي تدعو إلى العصيان! فيهرب وسام من المعتقل، وينجح في الوصول إلى لبنان أيضا، ولكنّ حبيبته عبير تتزوج من زياد الذي يعمل في السفارة السورية في بروكسل. وفي لبنان يستطيع أن يعمل مع بعض السوريين المهاجرين، في معامل الدواجن لقاء أجور زهيدة. وفي سبيل أن يحصل على الغذاء المجاني يذهب إلى المعارض الفنية التي تقدم الأكل والمشروبات لضيوفها، ويلتقي وسام بالصدفة بفنان بلجيكي في إحدى تلك الصالونات، والذي يعرض عليه فكرة وشم ظهره على أن يلتزم وسام بمرافقة الفنان في الكاليريهات الفنية في أوروبا لعرضه كلوحة فنية لقاء انتشاله من الفقر وتزويده بتأشيرة تتيح له السفر إلى جميع بلدان الاتحاد الأوربي. وينتقل وسام علي إلى أوروبا على أمل اللقاء بحبيبته عبير ويتصل بها مرارا عن طريق السكايب، ولكن زياد يصطحب زوجته إلى المتحف الذي يتفرج فيه الناس على ظهر عشيقها، في محاولة منه لكشف حقيقة وسام، وتحدث مُشادة واشتباك بالأيدي بين الغريمين، ونتيجة لذلك تتعرض بعض مُقتنيات المتحف إلى التدمير، فيُقَدّم زياد إلى المحكمة، لكن وسام يتنازل عن حقّه في مقاضاته إكراما لحبيبته. ويستمر وسام في عمله كتحفة فنية، ويُطلب منه أن يحضر إلى سوق المزايدات لبيع لوحة ظهره، وبينما يتنافس الحضور لشراء الظهر الموشوم، يقف بطل الفيلم أمام الجميع ويتظاهر بأنه يحاول أن يفجر نفسه، ويثير حالة من الهلع والفوضى في الصالة. ويتحرر وسام بهذه الطريقة من ارتباطه بالعقد مع الرسام، ويلتقي بعبير التي انفصلت عن زوجها، ويقرران العودة إلى مدينة الرقة في سوريا. قد تكون الترجمة الفرنسية للفيلم أكثر دقةً من العربية والإنكليزية، (الرجل الذي باع جلده) فمفردة جلد أكثر دلالة على روح الاستلاب الذي شكّل هاجسا للفيلم، ورغم أن مسار الفيلم ينطلق من الأزمة السورية ومشكلات الحرب، ولكنّه لا يتناول هذا الموضوع إلا بشكل عابر، مُرَكّزا على فحوى الاستلاب، فوسام الهارب من القمع، والباحث عن الحرية والحب، قد باع جلده من أجل التمتع بمباهج الغرب، أسوةً بڤاوست الذي تقول الأسطورة الألمانية إنّه باع روحه إلى الشيطان، مقابل أن يعيش في مباهج الحياة. لقد كان وسام الذي يمثل دوره باقتدار السوري/الكندي يحيى محياني يعيش متأرجحاً ما بين الخجل من كونه سلعة لا علاقة لها بكينونته، بل مجرد كونه جلدا موشوما ينبغي المحافظة عليه من أجل ذلك، أما قيمته كإنسان فلا وجود لها، فهو الآن جلد للفرجة والتأمل، ورغم أن هذه الخاصيّة وفرت له البحبوحة في العيش والتمتع بمباهج الحياة الأوروبية وفي صالوناتها، ولكنّها جردته من روحه التي باعها للفنان. ورغم أن الموضوع الرئيسي للفيلم هو الحرب ونتائجها وضياع الأجيال من الشباب الذين تطحنهم الحاجة، وفشلهم في تحقيق طموحاتهم، لذلك فيجدون في الغرب ضالتهم، ولكن المخرجة كوثر بن هنية لم تتناول هذه المواضيع بشكلها النمطي في الهجرة غير الشرعية وقوارب الموت، بل لجأت إلى تناول الموضوع من زاوية أخرى . واعتبرت كوثر أن الإنسان سيتجرد من إنسانيته أحيانا،عندما يهاجر عن الوطن، وإن الغرب لايفتح ذراعيه إلا من زاوية المصالح، وكأن الهجرة تلبس رداء العبودية، ولكن هذه المرة عن طريق الفن التشكيلي الذي يُفترض أنّه أكثر نقاءً من غيره، لآن شعار الفن هو محاولة تأكيد قيم الأنسنة بين البشر. ولكن الفن في هذا الفيلم يتحول إلى سوق تجارية، غايتها الثراء والربح على حساب مبادئ الحرية والكرامة. ويبدو لي أن الفيلم قد وقع في مطبات صغيرة في مجال كتابة السيناريو، وكأن ثمة صعوبة في وضع نهاية ملائمة له تنسجم وطبيعة الرؤية نحو مفهوم الاستلاب، والذي دعا وسام الشاب السوري لبيع روحه (لشيطان). فهل كان كل ذلك في سبيل الهرب من واقع القمع؟ أم في سبيل اللحاق بحبيبة تخلت عنه وارتبطت بشخصٍ آخر؟ لا شك أن انتهاج الفيلم للتفسير الثاني يجرده من بعض واقعيته، كما أن فرار وسام بسهولة من قبضة المخابرات السورية يعوزه الالمام بطبيعة تلك الأنظمة في الفتك بمن تظن أنهم معارضون لها، واستحالة فرصة الهرب. وتبقى عودة العاشقين (عبير ووسام) إلى الرقة غير مقنعة أيضا نظرا للظروف الأمنية واحتمال التعرض للاعتقال والموت. ولاشك أن هذه النقاط الضعيفة في سيناريو الفيلم ستؤثر على مصداقيته. ولكن من ناحية أخرى، كان الفيلم رائعا في قدراته الفنية الحافلة بالإثارة، والتي تجعل المشاهد معلقا بسحر انتقالاته وقدراته على التأثير، واستخدام المؤثرات البصرية القادرة على وضع المشاهد في بؤرة التوتر، إضافة إلى ازدواجية اللغة مابين السورية الدارجة والإنكليزية والفرنسية والتي جعلت الحوار أكثر تلقائية، وهو ينساب بعفوية من فم الممثل الذي لا يتورع عن استخدام اللغة اليومية ولاسيما (السوقية منها) للتعبير عن حالات إحباطه. كما ازدان الفيلم بفخامة الديكورات ولاسيما في الفنادق الضخمة وصالونات الفن سواء كان ذلك في لبنان أو أوروبا. كما أن ظهور الممثلة الإيطالية الشهيرة مونيكا بيلوشي التي مثلت دورا ثانويا كضيفة شرف منح الفيلم رونقا. ولم تكتف المخرجة بذلك، بل منحت دورا صغيرا للفنان التشكيلي الذي اقتبست قصة فيلمها منه. وفي النهاية نستطيع القول بأن فيلم "الرجل الذي باع ظهره" يمثل الإمكانيات الفنية العالية التي وصلتها تونس من حيثُ القدرة والكفاءة والحرفية التي جعلتها تتبوّأ مكانة مهة في صناعة الفن السابع.
مشاركة :