عن ألم المعرفة وسحر الأيديولوجيا...

  • 9/25/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يبدو الوعي حليفاً للألم و «التفكير» قريناً لـ «الشقاء»، فمن زادت معرفته زاد ألمه نتيجة كفاحه المضني لبلوغ حقيقة عصية على الإدراك، والوصول إلى يقين لا يمكن الوصول إليه في هذا العالم، مع ما يسببه هذا العجز عن البلوغ والوصول من ألم. فالإنسان الذي يتعقل وجوده غالباً ما يتألم ونادراً ما يفرح، إذ يسعى دوماً إلى فهم الحياة واكتشاف مغزاها بدلاً من أن ينعم بها، عبر التجاوب مع تلقائيتها وطلاقتها الظاهرة والمريحة، إذ يفرض علينا الوعي أن نراقب أنفسنا، أن نقوّمها ما دمنا ندرك قصوراتها، يصيبنا ذلك بالقلق والحزن لأننا ربما فشلنا في مهمتنا أو لأننا نجحنا فيها جزئياً فقط، في وقت يمرح فيه الآخرون على رغم أن قصورهم أعمق، وجهلهم بحقائق الحياة أكبر. ذلك أن التأمل المستمر في معنى حياتنا يصيبنا بقلق عميق يحول بيننا وبين المرح البـــريء الساذج الذي عشناه في طفولتنا، والذي يستطيع البعض أن يعيشه دوماً وأبداً لأنه استسلم لتلقائية الحياة، ولم ينشغل بمغزاها. وهنا تطالعنا ظاهرة واقعية كاشفة، فالإنسان البسيـــط غالباً ما ينجح في نسج علاقات طبيعية ودافئة مع الآخرين، على شتى الأصعدة: في الصداقة والحب والجيرة والزمالة وغيرها من أنماط التفاعل الإنساني المختلفة، فالتلقائية البسيطة تمكنه من التعامل مع الآخرين كما هم بطبائعهم التي قد تنطوي على تناقضات غير مفهومة له، ولكنه لا يكترث بها، أو تحتوي على عيوب لكنه لا يتوقف عندها ولا يحاول أن يسائلها، قدر ما يتكيف معها ويستمتع بمفارقاتها، فيما يفرض الوعي على أصحابه مساءلة تلك العيوب، والكشف عن مصادر تلك التناقضات التي يواجهونها في تكوين الآخرين، الأمر الذي يجعل من هؤلاء الآخرين موضع تأمل بارد وتساؤل مندهش، إن لم يكن موضع اتهام بالقصور والدونية، ويفرض حاجزاً يحول دون التعاطف التلقائي الودود والبسيط معهم. بل إنه قــد يفرض على ذلك الإنسان الواعي إذا ما كان مفكراً أو باحثاً تجاوز هؤلاء المحيطين به إلى محاولة تعميم المغزى الكامن فيهم على الإنسانية كلها، ساعياً من ثم إلى تجريد نظريات علمية أو قوانين معرفية حيال الطبيعة الإنسانية، ما يزيد من شعوره بالوحدة والعزلة، والترقب، وجميعها مشاعر تصير معلماً على ألم الوعي والمعرفة. ولعل هذا هو المغزى الذي يكاد يلامسه أو يعبر عنه شاعر الرومانسية الإنكليزية اللورد بايرون في أبيات خالدة قائلاً: الأسف معرفة... فأولئك الذين يعرفون الأكثر، يتفجعون أعمق تفجع على الحقيقة المحتومة، إن شجرة المعرفة ليست هي شجرة الحياة. في هذا السياق تكمن أهمية الأيديولوجيا لدى المجتمعات الإنسانية، كونها عدسة مجمعة (مقعّرة) من منظور المعرفة، ومفرقة أو «محدبة» من منظور الألم المصاحب لها. فعلى مر العصور، وإزاء حالة التعدد والتناقض التي تسم مظاهر الطبيعة في هذا الكون الواسع، كما تسم جوانب الحقيقة في بنية المجتمعات داخل هذا العالم الممتد، كانت هناك حاجة دائمة لآليات ذهنية تعطي الكون تفسيراً شمولياً، كما تمنح عالمنا ومجتمعاتنا فهماً ممكناً. وبينما لعبت أنساق مثل الأساطير والخرافة والسحر دوراً أساسياً في تفسير الكون لعصور طويلة تمتد في طفولة الوعي الإنساني، ولعب الدين هذا الدور نفسه في صبا هذا الوعي، سواء كان وضعياً طبيعياً أو سماوياً توحيدياً، فإن «الأيديولوجيا» هي التي ورثت هذا الدور، بمعنى ما من المعاني، في عصرنا الحديث الذي اتسم بسيادة نوع من الشك الذي يكاد يقضي على كل ضروب اليقين التقليدي في جل المجتمعات المتمدنة. وهكذا لعبت الأيديولوجيا ولا تزال دور حائط الصد في مواجهة نزعات الشك واستعصاء الحقيقة عبر القيام بوظيفتين أساسيتين سهلتا عملية إدراك العالم، وتخفيف حدة الألم الناجم عن تناثر الوعي الإنساني، وقصوره، وعجزه في مواجهة الحقيقة المطلقة أو الشاملة: الوظيفة الأولى إدراكية/ معرفية، ذلك أن الأيديولوجيا بما تمثله من نسق معين ومتراتب للأفكار، وبنية ذهنية/ رمزية جاهزة ومعدة للاستخدام، إنما تلعب دور الدرع الواقي للفرد ضد نزعات الشك والقلق الناتج عن تضارب المعاني، وتعدد المعايير وسيولة الأحداث، حيث تمده بأجوبة مريحة وجاهزة عن الأسئلة التي يواجهها من دون عناء التفكير الدقيق والألم الناجم عن متوالية المعرفة وعملياتها التحليلية المعقدة والمركبة والمرهقة. كما أنها، من جانب آخر، تعفيه من تهمة «الجهل»، ذلك أن الكائن «الأيديولوجي» يشعر من داخله أنه يعرف، بل يعرف كثيراً، بدليل أنه يملك تصوراً جاهزاً، وربما كاملاً، للحقيقة، خصوصاً مع امتلاك الأيديولوجية لميزة الاختزال، حيث يسود تفسير أحادي، أو على الأقل ضيق، للتاريخ في أغلب الأحيان: اقتصادي أو ثقافي، أو ديني... الخ. ولا شك في أن هيمنة الواحدية والاجتزاء على حساب الحقيقة المركبة والمربكة في آن، إنما تجعل تلك الحقيقة قابلة للإدراك، سهلة التداول والاستخدام، وإن كان هذا الإدراك زائفاً. أما الوظيفة الثانية للأيديولوجيا فهي نفسية/ اجتماعية، إذ تضع الفرد في مركب واحد مع المجموعة البشرية التي تشاركه الاعتقاد، لتصنع من الجميع تكتلاً بشرياً متناغماً يزداد شعوره بالتضامن، نتيجة امتلاكه لحمةً تنتظمه مع الآخرين، كما كانت القبيلة تنتظم الفرد في روح جمعية في العصور القديمة، فالأيديولوجيا إذاً هي النزعة القبلية المضمرة في فكر الحداثة، كحاضنة اجتماعية للتضامن الفعال، وحامية ذهنية ضد بواعث القلق والشك المتولد عن عالم جديد متغير ومتعدد، يصعب السيطرة على دفق حركته، ويصعب التحكم في إيقاعات تغيره، إلا من خلال صيغ معرفية تنظيمية، وأطر إدراكية جاهزة. إنها على وجه الدقة، ذلك النسق الجاهز وشبه المكتمل، الذي يقينا الشعور بالألم تجاه حال النسبية والقلق الكامنين في ذهنية الحداثة وفي مقولاتها وعملياتها المعرفية المعقدة، حتى لو جاءت تلك الوقاية على حساب الحقيقة، كلها أو بعضها... * كاتب مصري.

مشاركة :