مواصلة للتعريف بأهم عناصر مشروع الدكتور محمد جابر الانصاري الفكري، والذي بدأناه في مقال سابق بمحورية التشخيص لطبيعة المجتمع العربي وما يترتب عليه من نتائج في هذا المشروع، نتوقف عند العنصر الثاني من عناصر هذا المشروع الفكري، وهو ما يمكن ان نطلق عليه: «هيمنة الأيدلوجيا على المعرفة والشعارات على الأفعال» في سياق التعرف على إشكاليات الفكر العربي الحديث والمعاصر، حيث أوضح الانصاري في أكثر من كتاب ودراسة، أن أزمة الفكر العربي أنه لا يستند في أغلب عناصره على المعرفة الصحيحة، بقدر ما يستند إلى الشعارات السياسية والأيديولوجية، ولذلك تضيع الرؤية ويختل التشخيص وترتبك الأمور. من هذا المنطلق فإن كثيرين قد تصوروا أن مشروع الانصاري يضع العرب أمام طريق مسدود، وينسب إليهم التخلف كحتميةٍ لا مفر منها، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فقد أراد الانصاري فقط التنبيه، وبصوتٍ عالٍ إلى ضرورة أن يقف فكرنا المعرفي ـ قبل الأيديولوجي ـ أمام العوائق التي مازالت تحول بين مجتمعاتنا وبين التقدم والديمقراطية والمجتمع المدنيّ الحر. وعندما يشخص فكرنا المعرفي بنهج مقنع هذه العوائق، ويبين طرق معالجتها، على فكرنا الأيديولوجي أن يتبعه، وأن يسترشد به. ولكن ما حدث هو العكس، فالفكر الأيديولوجي - إن صح وصفه بالفكر أصلاً- قد مارس الدكتاتورية الشعاراتية على المفكرين المعرفيين. وحاول كتم أصواتهم إذا حاولوا التنبيه إلى قصوره المعرفي. ورفضوا الانسياق وراء شعاراته الحزبية المستمدة في الأغلب من المؤثرات الأيدولوجية الخارجية التي لا يعني لها الواقـع العربي شيئاً. لقد عانى عالم الاجتماع العربي المرحوم علي الوردي على سبيل المثال فقط ـ بكل ما عرف عنه من استقلال فكري في دراسة الخصوصيات العربية ـ الأمّرين مع الشيوعيين العراقيين ومن اليسار العربي الدوغمائي. لأنه كان يقول ببساطة علمية متناهية: إن النظام العشائري في العراق وغيره من البلاد العربية هو علمياً غير النظام الإقطاعي في أوروبا، بحسب التعريف الماركسي الأيديولوجي له. من يعود إلى دراسة تلك المعارك الفكرية بين علي الوردي والشـيوعيين العراقيين تتملكه الدهشـة؛ لخطورة قول الحقيقة البسيطة بين المثقفين العرب، ولم تكن مشـكلة الوردي مع أولئك فقط، فقد منعت كتبه في العراق في السنوات الأخيرة من حياته. وهذا مثال واحد على أن قول الحقيقة البسيطة المجردة في مجتمعاتنا هي أهم بكثير من ترديد الشعارات واجترار التصورات والخرافات والمثاليات. ولعل هذه النقطة المحورية هي من أهم مشروع الانصاري الفكري (قول الحقيقة أهم من الشعارات). ونتيجة لهذه الرؤية قرر البعض ان مشروع الأنصاري محبط عربيا لأنه يكاد يحكم على العرب بحتمية التخلف، إلا أن المطلع جيداً على هذا المشروع يجد أن الانصاري لم يقل بذلك قط، فلا توجد عنده مشكلة بالنسبة للإنسان العربي أو العقل العربي، فهو قابل للتعلم والتكيّف والتطور، لننظر كيف تفوق المبدعون العرب في الغرب أطباءَ، وعلماءَ، ومفكرين، ورجال أعمال... ولكن المشكلة تبدأ عندما يتعامل العربي مع العربي الآخر، سواء في وطنه أو في الوطن العربي، أو في الخارج، المشكلة مشكلة «مجموع» عربي، أي «علاقات جمعية» بين العرب، هنا إخفاقهم الأكبر حتى الآن، من جامعة الدول العربية إلى أصغر بلدية أو جمعية في المناطق العربية النائية، تجد فاعلية «الفريق» العربي، وروحه شبه مفقودة، نحتاج إلى التأمل طويلاً في أزمة «المجموع العربي»، وفي طبيعة النسيج المجتمعي العربي، وفي شبكة علاقاته، لماذا نسيجنا الجمعي لا يحتضن بشكل صحي وفعال الفرد العربي بداخله؟ لماذا يكبته ويرهبه ويشله؟ ولماذا (هذا النسيج) بهذه الصورة من عدم الفاعلية؟ ويعني الانصاري هنا آلية العلاقة المتبادلة بين الجانبين، الرئيس والمرؤوس، القائد والمقود، وكذلك شبكة التفاعل بينهم، جمعياتٍ، فئاتٍ، أحزابا، جماهيرَ، معارضةً، وفي النهاية للأسف كشلل صغيرة متقزمة تنتهي إليها هذه الواجهات (في عصر الكيانات والتجمعات والتكتلات الكبرى). لماذا هي في الحالتين غير طبيعية، وغير صحية، وغير منتجة؟ وتؤدي في أغلب الحالات إلى التصادم والتصارع والجمود، وبالتالي إلى التراجع والسقوط، كما نرى في حياتنا العربية بعامة؟ سواء حكمنا بأنظمة تقليدية، أو بأنظمة راديكالية، أو بأنظمة شبه ديمقراطية، أو مغرقة في الدكتاتورية؟ يتساءل الانصاري باستمرار وفي أكثر من دراسة: لماذا تبقى أوضاعنا العامة وتشكيلاتنا المجتمعية هشة إلى درجة التأثر المصيري بالمؤامرة ومخططاتها؟ ويجيب الأنصاري عن هذا السؤال الخطير بأن العرب قد خاضوا معارك الاستقلال بشجاعة وتضحية وكرامة، وكانوا قابلين للتطور والتقدم، والاستعمار على رؤوسهم، فلماذا سقطوا في امتحان ما بعد الاستقلال؟ في امتحان الحكم الوطني؟ في امتحان «الجهاد الأكبر»، الذي هو حكم النفس، وجهاد النفس، من أجل بناء النفس من جديد؟ هذا ما يجب أن نجيب عنه كعرب، علمياً ومعرفياً، وليس بكائيا؛ ليمد الخطاب العربي العام بالوعي اللازم، والتصحيح اللازم. فنحن مثلاً نتصور المشكلة في الإمبريالية، والصهيونية، والمؤامرات الخارجية، أحياناً ننسبها إلى الأنظمة المستبدة، وأحياناً نقول أنه التغريب والعلمانية، وأحياناً نرى أنها الماضوية والرجعية والموروث المحنط، ولكن أليس جديراً أن نتمعن في طبيعة البنية المجتمعية الكبرى التي مازالت تربكها مختلف تلك العناصر، فلا تستطيع امتصاص ما فيها من عناصر قوة -على اختلافها -وتكوين العناصر المفيدة منها؟. ويقدم الانصاري في سياق المقارنة مثالاً في التجربة الآسيوية مطلع القرن العشرين، حيث كانت «البنية» اليابانية التقليدية تمتص كل شيء وتحوله إلى عصارة مفيدة، بينما الصين في حينه كانت ترتبك من كل جديد وموروث إلى أن حسمت أمرها بالنهج الذي اختارته، فانعتقت من الدوامـة، ولذلك فالعرب بحاجة إلى حسم تاريخي يناسبهم كهذا الحسم، فهم ما يزالون في حالة اللاحسم، مترددين في دفع اسـتحقاق التاريخ، (ولنقل في دفع استحقاق بقائهم في العصر الحديث بكل تحولاته). البداية يقول الانصاري هي أن نتوصل أولاً وقبل كل شيء إلى تشخيص متكامل يحدد لكل عامل دوره، دون مبالغة أو تضخيم، ودون تبسيط واختزال. بعد ذلك سوف نكون قادرين على الانطلاق الى المستقبل بثقة واقتدار. وللحديث صلة
مشاركة :