قبل ثلاثين سنة تلقيت دعوة للمشاركة في أحد اللقاءات الفنية التي تقام دوريا في تونس. حصلت على تأشيرة دخول من السفارة التونسية ببغداد ووجدت نفسي في مطار قرطاج. وما أن نظر ضابط الجوازات إلى جوازي حتى أشار إلى احد أفراد الشرطة الذي اقتادني إلى غرفة زجاجية لا تُفتح من الداخل. بقيت سجين تلك الغرفة حوالي ساعتين إلى أن تم الافراج عني. يومها قررت أن لا أذهب إلى اي بلد عربي إلا إذا حصلت على جواز أوروبي وهذا هو ما حصل بعد سنوات قليلة. من وراء زجاج تلك الغرفة كنت أرى الأوروبيين وهم يلقون جوازاتهم على الكاونتر من غير حتى أن يبتسموا. كانت جوازاتهم تُختم بسرعة البرق من غير حتى أن يرفع الضابط رأسه ليقارن بين وجوههم والصور التي في الجوازات. وإلى أن أطُلق سراحي كنت قد أحصيت الاف المسافرين الذين حضروا بعدي وغادروا المطار فيما كنت ما أزال في مكاني عاجزا عن الحركة أو السؤال أو فهم ما يجري لي. كان ذلك استقبالا مهينا في بلد لا يليق به أن يهين ضيوفه الاشقاء. بعد سنوات وفي مطار الملكة عاليه بالعاصمة الاردنية عمان مررت بتجربة ليست شبيهة ولكنها تنتمي إلى السياق نفسه. ففيما كنت واقفا في طابور الأجانب كوني أحمل جوازا أوروبيا توجه إلي أحد الضباط الشباب غاضبا بحيث لم اتمكن من فهم ما كان يقول. وحين حاول أن يمسك بذراعي ليخرجني من الطابور صرخت به "ماذا تريد؟" فقال بطريقة ساخرة "مكانك ليس هنا". حينها انتبه أحد زملائه وخاطبه "ألم تر لون جوازه؟" وهنا صمت متخاذلا وابتعد من غير أن يعتذر عما فعله. زميله حرك يديه بأسف واختفى. كان مشهدا رثا وحزينا ويدعو إلى الاشفاق، كانت الكراهية عنوانه. ما حدث لي حدث ويحدث لملايين المواطنين العرب في المطارات العربية (باستثناء المطارات الخليجية) ولقد رأيت بعيني ما يؤكد ذلك وهو ما جعلني اعتبره سياسة ثابتة لا تتغير بتغير الأنظمة. كما لو أن ذلك السلوك العدواني الخشن الذي لا يستند إلى أي مبرر قانوني هو عبارة عن فقرة في دساتير تلك الدول. ولأنه لم يكن يتم بطريقة ناعمة وغير معلنة فأني على يقين من أن الأوروبيين يعرفون به ويدركون أن المواطن العربي يُهان بيسر ومن غير أن يحق له أن يعترض أو يغضب في لحظة استقباله في أي مطار عربي. ذلك ما يسر للآخرين التعامل معه في مطاراتهم بطريقة تنطوي على قدر من الاحتقار والاستخفاف والشك. لا لشيء إلا لأنهم صاروا يعتقدون أن تلك الطريقة هي التي تليق به كونه كائنا مشكوكا فيه في بلاده. المواطن العربي مشبوه ومتهم قبل أن يفعل شيئا. ذلك وسام وطني وقومي يحمله على صدره اينما حل. عليه أن يتذكر أنه يُهان من قبل اشقائه فلمَ لا ينصاع لإهانات الأغراب؟ ومع تدهور الأوضاع الأمنية في العالم العربي صار العربي هو الارهابي المثالي وتلك حكاية أخرى. ولكن حين أعود إلى الحكاية الأصلية تلوح في ذهني علاقة محتملة ما بين الموقف المهين الذي تتخذه السلطات العربية في تعاملها مع المواطن العربي وبين الموقف العالمي، الغربي على الأخص، المستخف بالدول التي تُهين مواطنيها وأشقاءهم. هناك خيط يصل بين الواقعين. فدول تنزع عن مواطنيها كرامتهم هي دول ليست كريمة ولا تستحق بأن تُعامل بالطريقة التي تحفظ لها كرامتها. ذلك مقياس ديمقراطي لا يمكن التغاضي عنه. الدول العربية تتفاجأ أحيانا بأن الغرب لا يعاملها باعتبارها دولا ذات سيادة ويتدخل في شؤونها الداخلية ويفرض أفكاره بطريقة تكشف عن عمق الاختراق الذي تعاني منه المجتمعات العربية التي لا تربطها صلة عضوية بالأنظمة السياسية القائمة والتي ينبغي أن تقوم بتصريف شؤونها. في غير عاصمة عربية رأيت شخصا غربيا ما يدير مشاريع ثقافية بحرية واستقلال وهي مشاريع منفصلة عن الثقافة الوطنية تماما. ذلك ما أدى إلى نشوء أجيال تتكلم وتفكر وتحلم وتخطط بلغة أخرى. لغة لا علاقة لها بلغة الشعب وليس الهدف منها أن تنفعه. لطالما سمعت جملة صادمة تُقال بانزعاج "أنت إنسان محترم في وطنك". المقصود بوطني هنا البلد الجديد الذي احمل أوراقه الثبوتية. وكم ألمتني تلك الجملة لأنها تُشعرني بأنني نجوت فيما كان مقدرا لي أن أغرق مع الآخرين. ولكن السؤال الأهم يتعلق بالدول لا الأفراد. فمتى تدرك الدول العربية أنها تُهان ويُستخف بها لأنها تُهين مواطنيها؟
مشاركة :