كنا في ندوة ذات يوم من أيام سبعينيات القرن الماضي، موضوعها مزدوج بين قراءات شعرية، وتقديم رؤية نقدية؛ تحدث في الندوة شاعران مثقفان من فلسطين، قرأ كلاهما شيئاً من شعره، وعرضا وجهات نظر نقدية حادة أثارت جدلاً بينهما وبين جمهور الحاضرين امتد لأكثر من ثلاث ساعات، هذا خبر عادي كان يمكن أن يمر ومعه الحدث ولا يخلف في الذاكرة سوى طيف شاعرين/ ناقدين، وجدل طال وتميز بالإثارة والتنوع، إلا أن شخصاً يماني الجنسية بين الحضور مازال يمثل في ذاكرتي مثلما مثل في المرة الأولى، وقف في الدقائق الأخيرة ممتدحاً الشاعرين، ومثنياً على براعتهما وأهمية جهدهما الفكري. أيضاً لم يكن في هذا ما يلفت الانتباه، فكلا الأمرين؛ المديح أوالهجاء، يمر سريعاً أيضاً، ولا يعلق منه في الذاكرة إلا ما يعلق من رذاذ عابر، ولكن ما رسخ في ذهني وما زال يترجرج في ذاكرتي أمنية عبر عنها هذا اليماني اللطيف حين قال بالحرف الواحد إنه واثق أن الشاعرين/الناقدين سيفيدان بأفكارهما ثقافة بلدهما! وشدد على كلمة بلدهما. لم يثر هذا المديح في ذهني آنذاك الدهشة التي يثيرها الآن بعد كل هذه السنوات؛ بل مر وتلاشى، ولكنني وأنا أعود إلى التفكير فيه بعد كل هذه السنوات، وفي ضوء أحوالنا الراهنة، أجده مديحاً، بصرف النظر عن نيات صاحبه، يحمل فكرة شاذة وغريبة من نوعها، ولكنها كانت فكرة مؤسسة لما نشهده حالياً في الأوساط الثقافية العربية من شذوذ، معنى هذه الفكرة أن هذين الشاعرين، بما قدماه وبما يأمل صاحب المديح لهما، لم يكونا يتحدثان العربية الشاملة، ويسهمان في حركة الثقافة العربية، وينتميان إلى ثقافة بحر واسع يمتد بين محيطين درجنا منذ الطفولة على أن اسمه الوطن العربي، ويصدران عن هذه الثقافة، وهي مصدر ومآل جهدهما الفكري، بل ينتميان إلى بلد عربي محدد ذي ثقافة خاصة به، ولا علاقة لبلد هذا المادح بهما، أو لا علاقة لهما به، أو ببقية بلدان الوطن العربي. بعبارة أوضح، هو أنكر عليهما ضمناً ما كان سيمنح جهدهما معنى أوسع؛ أن يفيدا الثقافة العربية أينما حلا وارتحلا، أي أنه ملك لكل ناطق بالعربية. فلماذا رأى اليماني أن ما سمعه من هذين العربيين سيكون مفيداً لثقافة بلد..هما حصراً؟ وكأنه يبعدهما ويعزل جهدهما الشعري والنقدي، أو كأنه يفردهما خارج ثقافته وثقافة بقية الحاضرين من الجنسيات العربية الأخرى؟ * * * مررت بتجارب أخرى سمعت فيها ما يشبه هذه النغمة، في مقهى من مقاهي صوفيا البلغارية حين طلبت من صاحب رسالة جامعية عراقي الجنسية موضوعها الروائي العراقي غائب طعمة فرمان أن يزودني بها، فظهر على ملامحه استغراب عبر عنه بقوله هذا روائي عراقي.. وأنت فلسطيني فلماذا يهمك أمره؟. وعقدت الدهشة لساني، ليس لأنه يرفض طلبي، بل لاعتقاده كما يبدو أن الروائي فرمان لا يعني إلا العراقيين! ولم أجد طريقة للرد على تفكير وجدته غريباً وغبياً، إلا القول ببساطة أنا معني به كروائي، بالإضافة إلى أنني أعتقد أن الآداب والفنون تعني كل إنسان على سطح هذا الكوكب بغض النظر عن جنسيته، لم أقل له إنني قرأت كتب هذا الروائي، وأنني قضيت شطراً من عمري في العراق، حتى لا أزيد من استغرابه وارتباكه ربما، أو إحداث خرق في شبكة وعيه إن علم أن هناك فلسطينيين عاشوا وعلموا في مدارس العراق، وعلموا عازفيه قراءة العلامات الموسيقية. لا أعرف إن كان صاحب تلك الرسالة، لا يزال من رواد ذلك المقهى أو انتقل إلى إحدى الجامعات ليتحف طلبتها بشيء شبيه بما أتحفني به، إلا أنني أعيد التفكير بتلك المصادفة، وأربط بينها وبين صاحب الأمنية اليماني، وأصل إلى مشهد آخر صادفني حين كتبت مقالة إعجاب برواية عربي آخر، فأرسل لي كلمة تقدير، وأرفقها بدهشته من أن يجد كاتباً من غير بلده يهتم بروايته! وكأنني كائن من كوكب آخر. لا أعتقد أن هذه الأحداث المنفصل بعضها عن بعض، مكاناً وزماناً، مجرد مصادفات، هنالك منطق ما موحد يربط بينها؛ منطق مضمر بأن لكل بلد عربي شأنه الخاص به، بما في ذلك حتى الشأن الثقافي، وكأن كل بلد كون قائم بذاته، هذا المنطق المضمر كثيراً ما صادفته في كتاب أو بيان، كأن يذهب باحث إلى تراثنا العربي غازياً، فيمنح شاعراً عاش مشرداً في أواخر العصر العباسي، مثل المتنبي، جنسية بلده، أو أقرأ لجماعة أدبية ذات يوم شيئاً أكثر عجباً؛ سرداً تاريخيا منحت فيه الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، الذي يقال إنه قتل على يد أحد الولاة في البحرين، جنسية هذا البلد! ويكمل هذا المنطق، سواء كان مضمراً كما هو عند اليماني والعراقي، أو معلناً كما هو عند صاحب المتنبي وجماعة طرفة بن العبد، ما يكتب وينشر من دراسات تتناول ظاهرة الشعر الحر مثلا، فتحصره في هذا البلد أو ذاك، غافلة أو متعمدة التغافل، عن أنها ظاهرة حركة شعريةعربية أولا، قبل أن تتأقلم ويكسبها هذا أو ذاك هوية زاروب أو ضيعة أو قرية من قرى هذا الوطن الشاسع، فتخرج بأحكام أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها قاصرة وساذجة. وأتذكر أن شيئاً من هذا حدث حين خرج د. زكي نجيب محمود من نقاش على صفحات المجلة القاهرية (أكتوبر 1961) موضوعه الشعر الجديد، أن لا جديد في هذا الشعر! وكان محقاً لسبب غفل عنه نقاد من وزن محمد مندور وعز الدين إسماعيل حاولوا نقض رأيه، حين لم يلتفتوا في التقييم إلى أن الشعر الجديد كان تياراً وموقفاً وحركة في الثقافة الشعرية العربية، فاعتمدوا نماذج قاصرة عن أن تكون ممثلة من نتاج شعراء مصريين فقط، وسهل على منطقي مثل د. زكي أن لا يجد جديداً فيما عرضوه، وأخطأ هو من جانبه حين اعتبر الجزء الشعري في مصر كلاً شعرياً لا جزء من كلية أكبر مجالها الوطن العربي منبعاً ومصيراً. * * * بالطبع لن أكون سعيداً لو قال لي إنسان، ولو بقصد المديح، إن شعري وفكري سيكون مفيداً لثقافة بلدي أوقريتي، أو السكة التي تقطنها عائلتي، فيعزلني بعيداً عن ثقافة أمتي العربية التي يتحدد مصيري الثقافي ومصير ما أنتجه بالانتماء إليها، والاحتكام إلى معاييرها، لا معايير جزء من أجزائها. في ضوء هذا المنطق، وهو يهيمن ويستبد، وحين أفكر بمصير ما أكتب، يصيبني الفزع، أنا الذي نشأ على أساس أنه يعيش في بحر واسع، فيجد من يقذف به إلى بركة مياه ضحلة ويحشره فيها، معنى هذا أنه يبعدني عن تراثي الماضي الذي صنعته تيارات متآلفة ومتلاطمة، لغة ومعاني وقضايا، تتناضح بين بلدان وطني الكبير.. فماذا أكون من دون أدب وفنون وفلسفة وعلوم وعقائد وعمائر أمتي، من دون هذا النسيج الحضاري الذي أبدعته عقول وأفهام ثقافة عربية ظللت عواصم وأرياف وطني العربي الكبير؟ ماذا أكون من دون ذاكرتي؟ أعرف أن هناك من يسعدهم أن يكتبوا وينشدوا ويبدعوا، وفي وهمهم أنهم يفيدون هذه الشظية أو تلك من شظايا هذا الوطن، بل ويرقصون فرحاً حين يحتفي بهم سكان هذه الشظية، ويضعونهم في موازينهم الصغيرة، أو بجوار شجيرات حمص لا يعرفون غيرها، فيبدون ذوي ثقل في تلك الموازين وعمالقة بجوار هكذا شجيرات، إلا أن هذه ليست سوى سعادة خادعة؛ سعادة سمكة تسبح في نقطة ماء متوهمة أنها تسبح في البحر كله. سعادة الإنسان الجديرة به هي أن يكتب ويبدع شاعراً أن هويته الصغرى لا أهمية لها من دون هويته الكبرى؛ هوية ثقافة مترامية الأطراف، في الماضي والحاضر، أعني ثقافة أمة عربية. في هذه الثقافة أجد مبرر ومعنى تحصيلي وجهدي، فهي المصدر والمصب، ومنها وحدها يمكن أن أصعد إلى هويتي الإنسانية. هي مصدر ومآل حياتي الماثل أمامي حين أكتب وأفكر وأعيش، ولا أجد معنى لي، ولا لما أفعله، خارج مسارها، أنا من دونها صفر ملقى في الفراغ حتى لو جمعت مع أصفار أخرى؛ النتيجة واحدة، وستكون صفراً أيضاً.
مشاركة :