جنس إبداعي متفرد يكشف سيرة النفس البشرية

  • 9/26/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يعتبر الكثير من القُراء كتاب الجاحظ الموسوعي الحيوان واحداً من الكتب المبكرة في دراسة طبائع الحيوانات، وشؤونها، وأمراضها، وغيرها مما يتعلق بعالم الحيوان، إلا أن المتوقف ملياً عند متن الكتاب يجد اشتغالاً بعيداً عن الحيوان بقدر قربه منه، فالجاحظ يختار موضوع الحيوان كمنفذ أو باب يمكنه من البحث والتعليق والحديث عن القضايا التي شغلته والتي تكشف عنها مؤلفاته الأخرى، كالبيان والتبيين، والبخلاء، وغيرها من المؤلفات. تنكشف معالجات الجاحظ لشواغله عند النظر إلى الموضوعات التي يطرحها وأسلوبه في مناقشتها، إذ كان يمكنه الحديث عن طبائع الحيوان بصيغة صرفة، تصف الحيوان وأكله، وحجمه، وأمراضه، وأماكن تواجده، واستخدام الإنسان له، وغيرها من القضايا، إلا أن معالجته للموضوع الظاهر تحت عنوان الحيوان، أخذت سياق الحديث في مدونة الشعر العربي، ونصوص النثر، والحكاية الشعبية، والمرويات، وراحت تزاوج في سردها بين الحديث العلمي، والحديث عن طبائع المجتمعات العربية والذهنية التي تحكمها. ليس ذلك وحسب فشواغل الجاحظ تتجاوز ذلك كله، لتظهر في الكتاب نصوص تبحث في الحديث النبوي الشريف، والسيرة النبوية، وتتوقف عند قضايا في الفقه والشريعة الإسلامية، وتأخذ سياقها في هذا الإطار حتى يصبح موضوع الحيوان باباً مشرعاً على المرحلة التاريخية التي عاصرها الجاحظ، إذ كشف في الكتاب سيرة الحياة وشؤون العباد خلال مدة الحكم العباسي، مشيراً إلى علاقة المجتمع بالسلطة، والرعية، والحاشية وغير ذلك من قضايا وشؤون المجتمع. لذلك لا يمكن الحديث عن الحيوان بوصفه كتاباً في العلوم والأحياء، ولا يمكن الحديث عنه أيضاً بوصفه كتاباً في الأدب، أو الشعر، أو الفقه، أو السياسية، وإنما يمكن الحديث عن جنس إبداعي متفرد اختاره الجاحظ للكشف عن رؤيته ومشروعه المعرفي الذي قضى فيه حياته، ف الحيوان كما غيره من مؤلفات الجاحظ يكشف أسلوبية خاصة للجاحظ، لا يمكن المرور عليها سريعاً، ولا يمكن تجنسيها في سياق الأجناس النصية التي عرفتها الثقافة العربية القديمة أو المعاصرة. لا يبدو الجاحظ علّامة وفقيهاً وباحثاً ومفكراً وسياسياً، بقدر ما يبدو كل ذلك إلى جانب أنه كاتب ماهر، استطاع قبل كتابة مؤلفاته أن يقرأ سيرة النفس البشرية، وعلاقتها بالنص، وأثرها على المتلقي، كما كان عارفاً بمستويات القراءة، وطبقات النص نفسه، ففي الوقت الذي يمكن لأحد نصوصه أن يكون في علاقة الحيوانات وطرق معيشتها، يمكن قراءته بوصفه إشارة إلى علاقة رأس السلطة مع الرعية والمجتمع. إلى جانب ذلك كان الجاحظ حريصاً بصورة لافتة على توظيف الفكاهة في نصوصه، فهو العارف بذهنية القارئ، والمدرك لقدرة الفكاهة على تلمس الحالة بخفة من دون عداء أو معارضه، فكان كثيراً ما يلجأ إليها ليمرر شواغله ويقول رأيه، ويثير تساؤلات حول قضايا المجتمعات العربية. يقول الجاحظ في حديثه عن طبائع البقر ودور الثور في حمايتها، كانوا يزعمون أنّ الجنّ هي التي تصدّ الثّيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب حتى تهلك، وقال في ذلك الأعشى: (من الطويل) فإنِّي وما كلَّفتُموني وربِّكم لأعلَمُ مَنْ أمْسَى أعقَّ وأَحربا لَكالثَّور والجنّيُّ يَضرِبُ ظَهرَه وما ذنْبُه أن عافَتِ الماءَ مَشرَبا وما ذنْبُه أَنْ عافَتِ الماءَ باقِرٌ وما إن تَعَافُ الماءَ إلاَّ ليُضْرَبا تكشف القراءة الأولى للنص عن ذكر طباع البقر واعتقاد العرب أن الجن هو الذي كان يردها عن الماء حين تكون عطشى، من خلال ضربه لثيرانها، بحيث تبتعد ولا تصاب بالتخمة، إلا أن القارئ للمستوى الآخر من النص، يجد إحالة واضحة على معتقدات العرب السابقة، وارتباطهم بالغيبيات، وتحول الغيب والجن إلى علة لكل ما لا يجدون له تفسيراً، فليس غريباً حينها ظهور الكثير من عادات التطير، والمعتقدات الخرافية، والطقوس الاجتماعية التي لا يوجد لها أصل وإنما ترتبط بذهنية العربي وذهنيته في تفسير الظواهر. ليس ذلك وحسب فالجاحظ بذلك يشير إلى مستويات القصيدة العربية، وقدرة الشاعر على تحويل مظاهر الحياة الطبيعية فيها إلى نصوص شعرية، لا تمثل فعلاً جمالياً بقدر ما توثق حالة وتسرد سيرة، أو تذكر موقفا، وكأنه بذلك يقول إن الشاعر ابن بيئته وليس غريباً أن تتحول كل هذا المظاهر التي ربما لا تحوي من الجمال في شيء، إلى صور وتشابيه شعرية يوظفها الشاعر. إلى جانب ذلك تكشف القراءة العميقة للنص عن صورة مجازية لمفهوم السلطة في قيادة الرعية، فما الثور في هذه الحالة سوى قائد القطيع، وما القطيع إلا رعية لا تثير تساؤلات ولا تفكر وإنما تقاد وتجد نفسها مجرورة كما يأمرها الثور. ولا يتوقف البحث في مستويات النص وكثافته عند هذا الحد، بل ربما يكشف الكثير لو ظل القارئ يتوقف عند كل مفردة وكل جملة، فالحديث الذي يثيره الجاحظ في هذا الجانب هو معالجة رمزية لمفهوم الظلم أو الشخص الذي يعاقب بخطأ غيره، فنجده يذكر استطراداً في الموضوع نفسه أبيات نهشل بن حرّيّ: (من الوافر) أتُتْرَكُ عارضٌ وبنو عَدِيّ وتَغْرَمَ دارِمٌ وهُم بَرَاءُ كدأبِ الثَّوْرِ يُضْرَبُ بالهَراوى إذا مَا عَافَتِ البَقَرُ الظِّمَاءُ وكيف تكلّفُ الشِّعرَى سُهيلاً وبينَهما الكواكبُ والسَّماء

مشاركة :