ترهّلت الدولة المصرية منذ نكسة حزيران (يونيو) 1976، حتى انسحبت تدريجياً من المجال العام، بخاصة الخدمات الأساسية التي يحتاجها المجتمع، ثم كان تذبذب سياسات الدولة العامة منذ أحداث كانون الثاني (يناير) 1977 التي شهدت تظاهرات ضد رفع الدعم الجزئي عن بعض السلع، وأعقبها سحب الدولة قرارها رفع الدعم. لم تكن النظم السياسية في مصر منذ نهاية عصر أنور السادات ثم عصر حسني مبارك، صريحة في إعلان توجهاتها الاقتصادية، فلا هي تخلّت صراحة عن النهج الاشتراكي، ولا هي تبنّت صراحة الرأسمالية كمنهج. فبات الوضع مثيراً للارتباك على الأصعدة كافة، ففي الوقت الذي نهج نظام مبارك سياسات اقتصادية رأسمالية متوحّشة، وأغفل تطوير القطاع العام، كان رئيس الجمهورية متردداً في التعامل مع تضخّم حجم الدعم. أدى كل ما سبق إلى تراجع مستوى خدمات الدولة، وعجزها في مجال الخدمات العام. ففي مجال الصحة، تدهورت خدمات المستشفيات الحكومية حتى صار المثل الشائع عند المصريين «الداخل مفقود والخارج مولود». هنا بدأت المساجد والكنائس في توفير خدمات صحية بتكاليف منخفضة نسبياً، واستقطبت الجماهير لهذه الخدمات، فصار المسلم يذهب إلى المسجد والمسيحي يذهب إلى الكنيسة، ثم تدهور مستوى التعليم في المدارس، فقدمت المساجد والكنائس دروساً خصوصية تتناسب ومداخيل الأسر المنخفضة، لتبدأ حدة الاستقطاب الديني في المجتمع، بل والتعصّب، حتى صار الأقباط المصريون أسرى داخل أسوار الكنائس التي قدمت خدمات الترفيه والرياضة للأطفال والشباب، بسبب عجز النوادي ومراكز الشباب عن استيعاب الأجيال الجديدة، بل وحرمان بعض المناطق منها، فضلاً عن ارتفاع اشتراكات الأندية بالنسبة الى الطبقة الوسطى بكل شرائحها. هذا كله أتاح مساحة لجماعة «الإخوان المسلمين» للعب دور الدولة في المجتمع المصري، فأسست مستشفيات ومدارس قدمت خدمات التعليم والصحة وعبرها استقطبت آلاف الشباب، الذين صاروا يؤمنون بأن الجماعة هي بيتهم ووطنهم المثالي، ضد دولة أهملتهم وصارت تقدّم خدمات سيئة. بل إن المسجد والكنيسة من هذا المنطلق أتاحت لهما الدولة فرصة تنمية مجتمع موازٍ للمجتمع الرشيد الوسطي الذي تميزت به مصر لسنوات، في الوقت الذي أدى طول حكم الرئيس حسني مبارك لمصر من 1981 إلى 2011، إلى سكون في حركية الدولة، فلجأ الإخوان والسلفيون إلى تقديم ما هو أبعد، بدءاً من توظيف الشباب في المؤسسات والشركات التابعة لهم. وفي حقيقة الأمر، بنَت جماعة «الإخوان المسلمين» بأموالها إمبراطورية اقتصادية متعدّدة الشركات تحت عين نظام حسني مبارك ورعايته، كتبادل للمصالح بين الطرفين، كما كانت الجماعة تزوج شبابها وترعى هذه الزيجات، في وقت وقفت الدولة عاجزة أمام ارتفاع تكاليف الزواج بل والمغالاة في طلبات الزواج في المجتمع المصري، حتى صارت العنوسة ظاهرة تُلجئ الفتيات الى الجماعة للزواج كمخرج من هذه المشكلة الاجتماعية الحادة. إذا استمرّ تدهور خدمات الصحة والتعليم والرياضة في المجتمع المصري، وضعف أداء الدولة في هذه المجالات، من المتوقع أن تستعيد جماعة الإخوان المسلمين جماهيرها في وقت قياسي، هي والجماعات المتطرفة، فإذا كانت للدولة المصرية إرادة في استعادة المجال العام والمجتمع، فإن معركتها الأساسية خلال السنوات الخمس المقبلة هي إصلاح الخدمات الصحية ورفع كفاءتها، إصلاح التعليم ورفع كفاءته، إقامة مراكز شباب وأندية تقدّم التدريب الرياضي في مستوى جيد. فمن شأن ذلك إنهاء الاستقطاب الديني، وإتاحة الفرصة لنمو المجتمع المدني وانتشار السلم المجتمعي.
مشاركة :