هل يمكن النظر إلى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي باعتباره سياسياً ذكياً يخوض حرباً صامتة ضد أحزاب تتدثر برداء الدين وتدير واحدة من أكبر مكان للفساد في العالم؟ في وقت سابق سعت ميليشيات محسوبة على تلك الأحزاب إلى استفزاز الكاظمي من خلال القيام باستعراضات علنية للقوة وتوجيه التهديدات المباشرة له، غير أنه لاذ بالصمت وتعامل مع الأمر كما لو أنه لم يكن وكما لو أن أحداً لم يسمع تلك العبارات الخشنة التي قيلت في حقه. يصعب تحمّل وضع من ذلك النوع ولكن الكاظمي أثبت من خلال مواجهته أنه قد احتاط لأيام عصيبة، تفقد فيها الميليشيات والأحزاب ومن ورائها أعصابها وقدرتها على التعايش معه. ليس يسيراً أن تكون رئيس حكومة مستقلاً في بلد حكمته الميليشيات عبر ثماني عشرة سنة ولا تزال تخطط لحكمه لأمد بعيد. المغامرة هي أساس كل شيء بالنسبة إلى الكاظمي فهو رئيس حكومة لا تزال صلاحياتها محدودة وتوسيع تلك الصلاحيات مهمة عسيرة غير أنها ممكنة في سياق الخطط الصامتة التي وضعها الكاظمي. فالرجل الذي انتقل من منصب رئيس المخابرات إلى منصب رئيس الحكومة كان قد أُختير اضطراراً لقيادة مرحلة، خططت الأحزاب أن تكون مرحلة انتقالية من غير أن يكون ذلك الانتقال جوهرياً، فليس من المعقول أن تنقلب الأحزاب على نفسها لكن من المعقول أن توافق على صنع واجهة من شأنها أن تكون جسراً بين مرحلتين تتطابقان في كل شيء من غير أن يتمكن الجمهور العادي من اكتشاف ذلك التطابق. وسيكون ذلك الانتقال مناسبة لتغيير الوجوه. تلك اللعبة بالنسبة إلى الكاظمي مكشوفة ولكن الرجل الذي صار يقلق وجوده الميليشيات والأحزاب، لم يعلن حتى اللحظة عن نيته الترشح للانتخابات وليست هناك كتلة انتخابية تقف وراءه وهو لا ينتسب إلى تحالف حزبي مشهود له بالممارسة الانتخابية. ستكون فزاعة الكتلة الأكبر قائمة في مجلس النواب الجديد وهو ما يُريح مقتدى الصدر الذي يعتقد أن الشعب صار أكثر تعاطفاً مع خطابه الشعبوي الذي لا يميز بين "إيران بره بره" والذهاب إلى قم من أجل الاعتكاف لأغراض الدراسة. الصدر هو أكثر المتضررين في حال رشح الكاظمي نفسه للانتخابات. غير أنه قد يغير موقفه، فيلقي بثقله من أجل ولاية ثانية للكاظمي من أجل أن يتم تنصيبه رسمياً صانعاً للحكومات. ولكن ما الكتلة التي سيحتمي بها الكاظمي في حال فوزه بالانتخابات ليضمن من خلالها ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء؟ يراهن الكاظمي على أن الانتخابات المقبلة ستكون مناسبة لقلب المعادلات السياسية كلها. من المؤكد أن احتجاجات عام 2019 قد زلزلت القاعدة الطائفية وكشفت عن وجود جيل "شيعي" ينبذ الطائفية ويحتقر النظام الطائفي ويسعى إلى اسقاطه. ذلك هو الجيل الذي سيرشح أبناءه لقيادة المرحلة المقبلة. ولكن ذلك المسعى يصطدم بسعي الطبقة السياسية التي هي واجهة للأحزاب إلى إعادة تنظيم صفوفها وإزالة أسباب الخلاف في ما بينها بما يُعيد إلى نظام المحاصصة الطائفية والحزبية حيوية كان قد فقد جزءاً منها إثر فشل الأحزاب في اعاقة وصول الكاظمي إلى رئاسة الحكومة. ولأن الكاظمي يدرك أن الجبهة التي يتحصن وراءها خصومه في طريقها إلى التصلب مرة أخرى فقد سارع إلى توجيه ضربات ليست موجهة ضد طائفة بعينها أو تعد تطاولاً على فئة سياسية من دون سواها من خلال فتح ملفات فساد جاهزة سبق وأن تم تعطيل الاجراءات القانونية التي تم اتخاذها في شأنها. تلك خطوة لم تكن مفاجئة إلا على مستوى النوع الذي تصدت له. فاللجنة التي كلفها الكاظمي لفتح ملفات الفساد بدأت بملفات فاسدين ينتمون إلى الصف الأول من الطبقة السياسية. وكما يبدو فإن الكاظمي قد اختار أن يعلن القطيعة بصمت. فهو وإن تأخر في وضع قراره بمكافحة الفساد موضع التنفيذ فإنه اختار توقيتاً محرجاً بالنسبة إلى الأحزاب التي تستعد لإعادة التنسيق في ما بينها استعداداً للانتخابات فإذا بها تتلقى أنباء غير سارة توحي بإمكان أن يُنشر غسيلها الوسخ على الحبال من غير أن تتعرض لأي نوع من المساءلة المباشرة في الوقت الحالي على الأقل. لن يكون الكاظمي مضطراً لتقديم أسباب هجمته المفاجئة. ليست هناك لغة تجمع بينه وبين الأحزاب. حدث وإن قامت إحدى الميليشيات باستعراض أمام وزارة الداخلية حيث يُعتقد أن لجنة الكاظمي لمكافحة الفساد تجتمع هناك. لم يعلق الكاظمي يومها بشيء وتخطى الأمر من طريق اعتقال سياسيين كبار، كانوا إلى وقت قريب يعرضون مؤسسات الدولة في المزاد. ولو أن الأمور سارت على الوتيرة الحالية فإن الاستمرار في الإطاحة بالرؤوس الكبيرة التي كان لها دور أساس في إشاعة الفساد سيمكّن الكاظمي من إحداث اختراق مؤثر داخل الطبقة السياسية المنقسمة على نفسها أصلاً والخائفة من نتائج الانتخابات المقبلة. فالكاظمي وهو ابن العملية السياسية القائمة، لكن من الجهة غير المرحبة بالهيمنة الإيرانية يعرف جيداً أن المصالح تفرق بين الكتل السياسية ولا تجمع بينها، ولأن عمل لجنته سرّي وأثبت حتى الآن قدرته على الاحتفاظ باستقلاله فإن كتلاً سياسية سبق لها أن نأت بمواقفها عن موالاة إيران ستحاول دعم الكاظمي في الترشح لولاية ثانية. من المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة تخبطاً في المواقف يتراجع بتأثيرها إمكان الأحزاب والميليشيات على تشكيل تحالف طائفي، يضمن لها الاستمرار في إدارة النظام السياسي والتمتع بامتيازاتها من خلاله. ذلك ما سيجعل الطريق سالكة أمام الكاظمي لتحجيم دور الأحزاب في المرحلة المقبلة، لكن ذلك كله مرتبط بنجاح مخططه في مكافحة الفساد وللإطاحة بأكبر عدد ممكن من الفاسدين.
مشاركة :