غني عن الثناء ذلك اللقاء مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، الذي أجراه قبل أيام الإعلامي عبدالله المديفر وبثته العديد من القنوات السعودية، وتناقلت محتواه أهم وكالات الأنباء العالمية، فقد عَبّر الأمير عن شخصية القائد المدرك لمسؤولياته العارف بدقائقها، المُنطلق في كل ما يقول من رؤية مكتملة الأهداف والمنطلقات والوسائل. من منطلق أن كل متحدث ينبغي أن يتوقف ويناقش ما يدخل ضمن نطاق تخصصه، فإنني أجعل حديثي مقتصراً على ما ورد في هذا اللقاء حول بعض القضايا الشرعية، والتي أجدها من زاوية فكرية أهمَّ ما في الحوار، وإن كان ما بعدها وما قبلها من موضوعات قد ينظر إليها البعض على أنها الأهم. وهم من لا يرون ترابطاً بين الفكر والعمل فيقدمون المنظور التنموي والاقتصادي على كل شيء، وهذا التوجه ليس صواباً، وإنما الصواب هو ما تُبنى عليه معظم دساتير الدول ومنها النظام الأساسي للحكم في السعودية، أي: اعتبار الهوية هي الركيزة التي تُبنى عليها قرارات جميع الدول ذات السيادة التامة سواء أكانت تنموية أو ثقافية؛ ويُعتبر تذويب الهوية أو تنحيتُها عن الجانب العملي لأي دولة انتقاصاً في السيادة، فإذا كان هذا الانتقاص لصالح هوية أخرى يراد لها مزاحمة أو زحزحة الهوية الأصل، فهذا نوع من أنواع الاستعمار يُسَمَّى الاستعمار الثقافي. ومن إدراك سمو الأمير لهذا الأمر جاءت أهمية تضمين حواره الحديث عن الهوية، ذلك الجزء الذي ابتدأ تحديداً من الدقيقة الثانية والستين حتى الدقيقة الرابعة والثمانين تقريبا، وتناول أهم قضايا الهوية بأجوبة واضحة ودقيقة ومختصرة؛ ورغم وضوحها إلا أن كثيرين من الكُتاب في الداخل والخارج رغم تباين منطلقاتهم إلا أنهم توافقوا في تأويلها وصرفها عن معناها الذي تدل عليه لغةً واصطلاحاً، وأعني بهم بعض الكُتَّاب المنتمين للتيارات الليبرالية والتيارات الليبروإسلامية، وتيارات الحركيين الإسلاميين، والثوريين وأدعياء المعارضة السعودية؛ وكل تيار من هؤلاء له هدفه من هذا التأويل، فالليبراليون ومن شاكلهم من أدعياء التنوير، امتلكوا الذكاء السياسي، واشتغلوا وفق قاعدة معروفة لدى المتخصصين في إدارة الرأي العام وتوجيه السياسات، وهي المسارعة في صرف معاني تصريحات القادة وأعضاء السلطات التشريعية إلى ما يخدم توجهاتهم الفكرية، لأن رواج هذا التفسير إعلامياً سوف يؤدي مباشرة أو تدريجاً إلى قناعة السلطات التنفيذية به، ومن ثَمَّ يكون تنفيذ الأنظمة والقرارات على وفق هذا التفسير. أما الثوريون والحركيون وأدعياء المعارضة، فيصرفون معاني التصريحات عن ظاهرها بقصد التشويه والإساءة، وهم يستعينون على إثبات صحة تفسيراتهم المنحرفة عن الأصل بأقوال الليبراليين ومن شايعهم من الليبروإسلاميين. وللأسف فإن غالب طلبة العلم الشرعي بعيدون عن هذا التكتيك وغالباً ما يبقون بين صامت أو متأثر بما يطرحه أولئك من تفسيرات، وكان الأجدر بهم أن يُعَبِّرُوا عن سعادتهم بهذه التصريحات ويؤكدوا على معاني ألفاظها قبل أن تختطفها الطيور الجوارح، أما ما فعله بعضهم على وسائل التواصل من الندب والتباكي فليس سوى استسلام لتفسيرات المنحرفين وتأثراً بها وليسوا على ذلك من المعذورين. وهذا ما حدث فعلاً مع الجزء المتعلق بالهوية من حديث الأمير محمد بن سلمان، ولأجل ذلك ثارت ثائرة جميع هؤلاء الأضداد حينما صدر بيان أمانة هيئة كبار العلماء يؤكد الدلالة اللفظية لكلام سموه وينفي صحة التأويلات التي تعرض لها الحديث؛ فاستاء أصحاب بعض التوجهات الليبرالية من البيان وعدُّوه إغراقاً في الظلامية، وأما الحركيون من الإسلاميين فَعدُّوا هذا البيان من خيانة الدين التي تمارسها الهيئة بزعمهم ومن صَمْت العلماء والركون إلى الدنيا. والحقُ هو ما ذَهَبَت إليه أمانة الهيئة فإن كلام سموه لم يختلف عمَّا تعلمناه ثُمَّ علَّمناه في مناهجنا الدراسية التي أشاد سموه بها وقال إنها خَرَّجَته وخَرَّجَت جميع قيادات المملكة، كما لا يختلف عن حقيقة ما قرأناه في كتب الدعوة السلفية؛ أما ما تحدث به مَنْ تَحَدَث فليس سوى أمان منحرفة أو إرجاف في الأرض بقصد الاستمرار في الإساءة الممنهجة لبلادنا. فقد كان الحديث الأول عن الاعتدال فأرجع الأميرُ تعريفه إلى اجتهاد الفقهاء منذ أكثر من ألف عام وذكر أنه ليس في موقع يُمَكِّنُه من أن يشرح مفهوم الاعتدال سوى أنه يلتزم بالكتاب والسنة، وما نص عليه النظام الأساسي للحكم. فهذا الكلام رَدٌّ مُوَفَُق غاية التوفيق على من اتهموا السعودية بالتحول إلى العلمانية؛ ولا يفوتنا أبداً أنه كلام لم تستطع أن تقوله جميع الأحزاب الإسلامية التي تُزَايد اليوم على المملكة في إسلاميتها، ويُمكن لمن يُغالط في ذلك أن يراجع الدستور التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية منذ خمسة عشر عاما، والذي لم يجرؤ على إضافة الإسلام دين الدولة، تلك الكلمة التقليدية الموجودة في أكثر دساتير الدول الإسلامية فضلاً عن أن يذكر الكتاب والسنة، وكذلك دستور مصر في حقبة حكم الإخوان، أو الدستور التونسي الحالي الذي شاركت حركة النهضة في صياغته وكذلك دستور 2011 للمملكة المغربية، وهو الذي شارك في إقراره الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية المحسوب على الإخوان المسلمين، ليس فيه ذكر للكتاب والسنة وإنما الإسلام مقرونا بالمغاربية والحرية. بل أقول وبوضوح إنه لا يوجد قائد عربي مسلم على رأس الحكم أو في المعارضة الرسمية يجرؤ اليوم على أن يعلن وعلى الملأ وفي برنامح تتناقله جميع وكالات الأنباء العالمية أنه يتمسك بالكتاب والسنة، وأنه يفهم الاعتدال على ضوء ما قرره نظام الحكم المبني عليهما؛ لكن يأبى المزايدون إلا جعجعة ولا نرى طحينا. ثم يؤكد الأمير ذلك ويقول: «وتطبيقه على أكمل وجه بمفهوم واسع يشمل الجميع» وهذه حقاً هي سِمَةُ النص الشرعي، فمفهومه واسع ويشمل الجميع، فالشريعة الإسلامية كما أنها ثابتة فهي شاملة، فالكل يدخل في أحكام الكتاب والسنة، ونصوصُهما قادرة على استيعاب جميع المستجدات والأحوال، لم يقل أحد من علماء المسلمين ولا علماء الدعوة السلفية بغير هذا في كل زمانٍ ومكان. وعندما سُئل حفظه الله عن مساحة الشريعة في الدولة والقضاء، أفاد بأن الدولة على جميع المستويات: الحكومة كسلطة تنفيذية ومجلس الشورى كسلطة تشريعية والملك كمرجع للسلطات والقضاء، كلها ترجع للكتاب والسنة ولا يمكنها تجاوزهما، وأستحضرُ هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل سعد بن أبي وقاص: «هذا خالي فليُرني امرؤ خاله» فأي قيادة إسلامية اليوم في السلطة أو في المعارضة تستطيع الجهر بذلك في ظل الضغط الدولي لفرض العلمانية؟! ثم أفاض سموه قليلاً في تقسيم السنة إلى متواترة وآحاد وأخبار، وختم كلامه بقوله:«الحكومة في الجوانب الشرعية ملزمة بتطبيق النصوص التي في القرآن وملزمة بتطبيق النصوص في الحديث المتواتر، وتنظر في الأحاديث الآحاد حسب صحته وضعفه، ولا تنظر في الحديث الخبر [المنقطع ] بتاتاً إلا إذا كانت تسند عليه رأياً فيه مصلحة واضحة للإنسان». فأنا أريد من يخبرني من هو العالم الذي يخالف في هذا الكلام من الصحابة رضي الله عنهم حتى يومنا هذا؟ لذلك أقول: إن الليبراليين وأشياعهم ممن زعموا أن هذا القول تجديد لم يكن يعرفه العلماء ليسوا صادقين؛ بل هذا إجماع علماء الأمة، وإجماع علماء الدول السعودية الثلاث من عهد المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود حتى مؤسس الصرح الحديث الملك عبدالعزيز، إلى يومنا هذا. واليوم تؤسس السعودية مجمع الملك سلمان للسنة النبوية يقوم عليه أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، ولعل من أعماله ما سيكون دراسة لأحكام الأحاديث رواية ودراية. وأما أدعياء الإسلامية ممن زعموا أن الأمير ينكر العمل بخبر الواحد فليس لهم سبيل لادعاء ذلك سوى الكذب أو الغفلة والاستماع لما يقول الخصوم وعدم التثبت منه، فهذا نص الأمير يرى الأخذ بالآحاد إذا صح، ويرى عدم الأخذ بالمنقطع إلا إذا عُضِّد بمصلحة واضحة للإنسان، فأين الخلل في هذا التقعيد إلا لدى من غلب العداء عليهم وجانفوا العدل لأجل ما أُشبعت قلوبهم من كراهية، ولو عَدَلوا لعلموا أنه لا قائد اليوم يقول بالعمل بالسنة المتواترة فضلاً عن الآحاد، وكان حق الأمير عليهم في مقالته تلك الدعاء له وتسديده وتأييده وليس منابذته والكذب عليه؛ والمصيبة أنهم يكذبون عليه ويُقَوِّلونه ما لم يقل باسم الغيرة على الدين، ولو صدقت غيرتهم وديانتهم لعَدَلُوا وما كذبوا، وحسبهم بالعدل دينا. ثُمَّ إن الأمير أتْبَع كلامه هذا بمثال تطبيقي استخدم فيه خبر الواحد الثابتة صحته وهو قتل الزاني المحصن، وهو خبر رُوِيَ عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حيِّز الآحاد، وكذلك في ختام اللقاء استشهد بحديث «يخرج من ضئضئ هذا رجال حداث الأسنان سفهاء الأحلام.. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم» ورواه بمعناه وهو من أخبار الآحاد، فكيف غاب هذا عمن افترى على الأمير وزعم إنكاره المطلق للعمل بالآحاد. وتحدث الأمير أثناء ذلك عن قضيتين مهمتين، الأولى في وسائل الإثبات، فمن ارتكب معصية بينه وبين الله تعالى من المعاصي غير المتعدية، فليس من مهمة الدولة ولا المجتمع إثباتها إلَّا إذا ثبتت بإقرار، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الزانية، فإنه تركها حتى أقَرَّت على نفسها أربع مرات، وهذا المثال الذي ضربه سموه - كما قدمنا- في المعصية غير المتعدية، أما المعاصي المتعدية، كالسرقة والاتجار المحرم والمخالفة الظاهرة على الملأ للقِيَم الإسلامية، والمجاهرة بالمعاصي الثابت حرمتها، أو المجاهرة بالإساءة إلى الدين ورموزه، أو مخالفة الأعراف السائدة التي أصبحت في مقام النظام الاجتماعي فكل هذه -كما لا يخفى- من حق المجتمع الشكوى منها، ومن واجب أجهزة الدولة تتبعها، ولم يتطرق لها الحوار -والأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية ولله الحمد واضحة في هذا الشأن، ولدى الأجهزة المخولة بالقبض والتحقيق في السعودية نصوص نظامية في طرائق القبض ووسائل الإثبات، ولدينا تنظيمات خاصة مستمدة من الشريعة حول كثير من هذه المعاصي المتعدية كنظام الرشوة ونظام خاص بالاتجار بالمخدرات ونظام حول المال العام، ونظام متعلق بالقِيَم والأعراف باسم الذوق العام، والعديد منها تم تحديثه في عهد الملك سلمان ونجله حفظهما الله. الثانية: العقوبات، حيث ذكر سموه أن لا عقوبة إلا بنص من القرآن أو السنة المتواترة، ومن السياق ومن المثال الذي ضربه سموه يتضح أن مراده هو العقوبات البدنية، والتي تسمى في الفقه بالحدود، والأمر فيها كما ذكره سمو الأمير، لا خلاف في ذلك بين أئمة أهل السنة والجماعة من جميع المذاهب الأربعة، فلا حدَّ إلا بنص، وكل من حاول الاصطياد في ذلك فقد ركب البهتان وأبعد عن طلب الحق. وأما التعزيرات كالعقوبات المالية والسجن فلم يتطرق إليها سموه، ولم تكن مرادَه في سياق الحديث؛ والقضاء السعودي ينص على كثير منها، كعقوبة قتل الخطأ وقتل شبه العمد، وعقوبات ما يُسمى في العُرف القضائي الجُنَح، وبعضها متروك لنظر القاضي، وأعتقد أن هناك تنظيمات جديدة على وشك الصدور تحدد هذه العقوبات أيضا.
مشاركة :