شائكٌ هذا النسيج الذي يعتمده الكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل لروايته في حضرة العنقاء والخِلّ الوفيّ. ينتهج فيه بقدرة فائقة ومُحكمة تيار الوعي قاعدة لأحداث روايته وحياة شخوصه، على لسان الشخصية الرئيسية منسيّ إبن أبيه، الذي يسرد تاريخ حياته في رسالة مطولة لإبنة باعدت بينه وبينها أحداث حياته الذاهبة في الذهول التراجيدي للمسميات، للإرث الاجتماعي والقبليّ، لقوانين طُوعت لتنتخب من تحتويه ومن تجعله في الهامش. يتداخل التاريخ الشخصي بتاريخ المكان، الحروب العائلية بحروب الوطن، التناحر العائلي بتناحُر فئات المجتمع المختلفة، وينتقل بنا الكاتب في قفزات عبر الزمن لأحداث وشخصيات يُمسك خيوطُها ويستحضرُها في حاضر الأشياء ليثير نوستالجيا الفَقد الذي تسرب في عمق الحياة وترك شئونها مكشوفة وحاسرة تُنتهك قِيمُّها في فوضى مؤلمة، هي الفوضى المتمثلة في حياة منسيّ في مكان ليس له. المكان في الرواية هو المسرح بتداعياته المختلفة: مقر مسرح الخليج، العرض لفرقة المسرح العربي الكويتية في دمشق، غرفة منسيّ الخاصة في مسرح الخليج، كمثال. في المقابل نجد المسرح الآخر لما يدور في المجتمع الكويتي، الملحق حيث كان يعيش منسيّ مع والدته، فئة البدون، الشوارع اثناء الغزو العراقي على الكويت، السجن، الاختباء، الموت الرمزي والفعلي، كمثال آخر. ورُغم إن منسيّ كشخصية رئيسية هو في قلب الأحداث التي تنبع منه و تدور حوله، إلا إننا نجده أقرب الى دور المشاهد، مدركا المسافة القائمة بينه وبين الأشياء. في أكثر من موقع يحيل منسيّ هذا الشعور الى فئة البدون عامة كسمة تشكل طبائعهم و سلوكهم اليومي. هي نتيجة العيش في الهامش، الملحق الذي لا يحمل هوية خاصة به، هو مجرد ملحق بشيء آخر يستمد وجوده منه. وإذا كان منسيّ قد تم احتضانه من قبل الممثلين في مسرح الخليج، إلا انه يُقصى ويُهان ويُحاكم في مسرح الحياة في وطنه. يبدو الانقسام واضحا وشاسعا بين الحياة التي يعيشها منسيّ مع زملاءه في المسرح وفي جريدة السياسة الكويتية، وبين الامتعاض الذي يثيره وجوده خارج هذين المكانين. إذا كان المكان الأول قد أتاح له تحقيق ذاته عبر الكتابة، إلا أن المكان الآخر يمثل تهديدا دائما بإمكانية خسارة هذا التحقق في أية لحظة. قد يكون الاحتمال القائم بإمكانية الخسارة هو المحرك الأساسي لعدم التوطن في أية مشاعرٍ أو كشفها تفاديا لإنكسارٍ يصعبُ ردمهُ. فمنسيّ في الأساس هو العنقاء الذي يحترق ليولد من جديد، كل مرة، كما تدل على ذلك أحداث روايته. يتحرك الكاتب عبر الشخصية الرئيسية في الرواية، وعلى لسانه، ليخلقَ صورا وشخصيات متوازية، تجمعها الظروف القسرية وحس انعدام الحيلة، تقاربُهم هو بِمثابة المرآة التي تعكس الوجوه المتعددة لظلمٍ واقع، وإقصاء الى حافة الأشياء: منسيّ وعهود (المرأة / البدون) ، منسيّ والرقيب العسكري العراقي أيام الغزو (الأدب / الكتابة في مقابل الحرب)، منسيّ وصاحبهِ في السجن (الأبوة / الفقد)، والصور التي تتردد للجنود العراقيين أو للمقاومة الكويتية. كل من هؤلاء الأشخاص يمثلُ مرحلة في الحياة المتقلبة والعاصفة لمنسيّ الذي تُسيّره الأقدار في شبه مسرحية تراجيدية محكمة، يتسرب فيها الزمن الذي هو حياته. حين يلتقي منسيّ عهود لأول مرة، يكون ذلك على أرض أخرى هي دمشق، وحين يتعرف عليها يكون ذلك أثناء عرض مسرحي هناك. وكأن أرض الكويت التي سيعودون اليها لا تحتمل أن يجتمع شخصان مثلهما معا. وستظل تحاربهما بطرقٍ ملتوية عديدة عبر مشاهد تتدفق من ذاكرة منسيّ على الورق. يتحدث منسيّ في رسالته / الرواية الى ابنته زينب، يرسمُ لها الملامح التي يعرفها عن الأم، يحكي حياتهُ من خلال الآخرين الذين سيلوِّنون نص الرسالة تدريجيا بالأحداث الجميلة منها والمؤسفة. تُقدم عهود التي نتعرف عليها في بداية الرواية، صورة عن وضع المرأة الكويتية أو المرأة في الخليج وصراعها الدائم مع إرث اجتماعي، قبليّ، يضع الحدود والقيود، محاصرا اختياراتها ورغباتها متمثلا هنا بأخيها سعود. لوهلة، وحين تتحدث عهود الى منسيّ عن حياتها في مقاطع مبتسرة، وهما يجوبان شوارع دمشق، نشهد كقراء التماثل الكبير بينها وبين منسيّ. المرأة (الهامش) / البدون (الهامش) في مواجهة القهر المجتمعي. منسيّ يختصر حياته كلها حين يبوح لها من باب الصدق والأمانة حين يتم التقارب بينهما (أريدكِ أن تعرفي بأنني بدون) وكأن هذه الكلمة تختزل تاريخه كله الماضي والقادمَ منه. في بداية الأمر نبدو مأخوذين بالتصوير الذي يقدمه السرد عن عهود، نراها تتمرد وتخلق الطرق لزواج يبدو من الصعب قبوله اجتماعيا. هي من تقوم بالمبادرة، هي من يستأجر الشقة القريبة من المُلحق، هي من يُعدّ الإجراءات كلها في غياب أخيها، فهناك النَذر للسيدة زينب (إن أنجبتُ طفلة أُسميها زينب). على حين يبدو منسيّ منساقا معظم الأحيان، مترددا في الكثير منها، يناوشه الشك في الزواج والعائلة، يقيم المقارنات لزيجات أخرى مع بدون انتهى معظمها تحت وطأة الضغوطات الاجتماعية المختلفة. تفكيره وجودي يُدخله في متاهة اللا-تصرف، اللا-قرار. هو يأمن فقط للملفات التي يجمع فيها قُصاصات الجرائد، أَرشيفه الخاص لما يدور من أحداث ووقائع، يُرصُّ على الرفوف، سجلٌّ يتكاثر ويتوالد، يُصبحُ هو المتكأ القائم بذاته. في الكثير من الأحيان يتساءل منسيّ عن دوره فيما يحدث من أحداث. فهو يدركُ بأنه غالبا ما يُسحب الى جهات مختلفة من قبل أشخاص يحبونهُ أو بالعكس، يدركُ القرارات التي تُتخذ بأسمه، سواءً كانت منصفة أو غير ذلك، يدركُ إنه في الحالات القليلة التي يود فيها الاحتجاج يخونهُ صوتهُ، لذا تبدو حياتهِ وكأنها تُرسم من قبل الآخرين، ينسِفون ويعاودون البناء، هويتهُ معتمة وهلامية، وهو يتمثلُ لنا في صورة حنظلة كما رسمها ناجي العلي، حنظلة الكويتي، البدون الذي يتلاطم في موج القوانين، يغرقُ ويُعاد انتشاله ليُترَك مرميا على شاطيء وعرٍ.
مشاركة :