تركيا والرهان العسكري :التخلي عن السياسة خسارة حتمية

  • 9/27/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

«مهما تطلّب الأمر، يجب القضاء عليهم. جبال هذا البلد وسهوله ومدنه، لن تُترك للإرهابيين». عبارةٌ قالها رئيس الوزراء التركي، و «زعيم» حزب «العدالة والتنمية» التركي الإسلامي الحاكم، أحمد داود أوغلو، قبل أيّام. منذ 15/8/1984، لطالما كرر رؤساء حكومات تركيّة سابقة، هذا التهديد والوعيد، ورحل هؤلاء وحكوماتهم وأحزابهم، وبقيت مشكلة «العمال الكردستاني» تتهدد تركيا. وإن بقي الوضع على حاله، سيذهب داود أوغلو وحزبه أيضاً، ويبقى «الكردستاني». ذلك أن منطق العنف والحسم العسكري، أكّد فشله وإفلاسه في معالجة وطمر القضيّة القوميّة الكرديّة في تركيا، التي يعتبر «الكردستاني» أحد نتائجها، ولن تنتهي هذه القضيّة بانتهاء «الكردستاني»، كما يتوهّم الساسة الأتراك. بمعنى، بمعالجة السبب، تزول النتيجة، لا العكس. وهذا ما لا تتبعه أنقرة. الغزو التركي الأخير لكردستان العراق، هو الأوّل من نوعه، بعد الغزو الذي قام به الجيش التركي في 19/2/2008، وفشل فشلاً ذريعاً، وفقد الجيش التركي عشرات الضحايا وطائرات مروحيّة وعاموديّة، وفرّ الجنود الأتراك من ساحة المعركة، بعد أوامر صدرت من وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، على زمن إدارة جورج دبليو بوش. هذا الغزو التركي الجديد، قبل أيّام، سيكون كسوابقه التي ربما يصل عدد إلى 27 اجتياحاً لمناطق كردستان العراق، وفي كل مرة، كانت هيئة الأركان التركيّة تصرّح، بأن العمليّة كانت ناجحة، وحققت أهدافها، وقضت على المئات من مقاتلين الكردستاني. وإذا أجرينا إحصائية لعدد قتلى «الكردستاني» منذ بدء الأخير كفاحه المسلح ضد تركيا سنة 1984 ولغاية الآن، طبقاً لبيانات الجيش التركي، ربما نصل إلى رقم هائل يشير الى مقتل أكثر من مائتي ألف مقاتل كردي!! ومع ذلك، بقي «الكردستاني»، رغم اعتقال زعيمه أوجلان سنة 1999، ورغم كل هذه الحملات العسكريّة والسياسيّة ضدّه!. تتهم أنقرة بأن طهران تقف وراء عمليات «الكردستاني» الأخيرة. وهذه التهمة، جديدة - قديمة. وعلى صحّتها، فإن آخر من ينبغي عليه الامتعاض من ذلك، هو حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، كونه متورّطاً في قضايا فساد كبرى مع إيران. فأنقرة هي من خذلت وخانت واشنطن وكل حلفائها الذين كانوا يفرضون حصاراً اقتصاديّاً على طهران، وكسرت هذا الحصار، عبر التورّط في تبييض الأموال ودعم الاقتصاد الإيراني، وجعل تركيا «مغسلة» للأموال الإيرانيّة. وعليه، بإمكان أنقرة سحب ورقة «الكردستاني» من يد طهران، إذا كانت جادّة ومصممة في العمليّة السلميّة مع الأكراد. ذلك أن داود أوغلو نفسه، وأردوغان، لطالما كانوا يقولون إنهم مصممون على التسوية السلميّة، «مهما كلّف الأمر»، بنفس الحزم والعزم الذي يتوعّدون فيه الآن بـ «القضاء على الكردستاني، مهما كلّف الأمر»!. هذا التناقض في المواقف، يفضح مدى التخبّط من جهة، والازدواجية التي كانت تمارسها حكومة «العدالة والتنمية» في المفاوضات مع «الكردستاني» وزعيمه، من جهة أخرى. هناك تيّار ضمن «الكردستاني» لا يحبّذ الوصول إلى تسوية سلميّة تكون على حسابه، بخاصّة في ما يتعلق بالسلاح، وتسوية أوضاع قيادات الصف الأوّل، والتوصّل إلى اتفاق يحفظ ماء وجه قيادات «الكردستاني». لكن صحيح أيضاً، أن أنقرة الأردوغانيّة، هي الأكثر استفادة من وجود هذا التيّار، ومن انزلاق تركيا نحو دوامة العنف والدم، وصولاً إلى الاستفادة من هذه الأزمة للحدود القصوى، خصوصاً أن البلد مقبل على انتخابات برلمانيّة مبكّرة. بدليل ما صرّح به أردوغان، موجّهاً كلامه للناخب التركي، حين خيّره بين «الاستقرار أو الفوضى». وبالتالي، كلا الطرفين مستفيدان من الآخر. التيّار المتطرّف ضمن «الكردستاني» مستفيد من تعنّت وخداع الحكومة التركيّة، وجرّها البلاد إلى دوامة العنف والدم المتبادل، وكذلك «العدالة والتنمية» مستفيد من عودة «الكردستاني» إلى العنف، مبرراً ذلك، بتصاعد عنف الدولة والحكومة ضدّه وضدّ الكرد!. غالب الظنّ أن أنقرة أصرّت على تشكيل منطقة آمنة داخل الأراضي السوريّة، تكون بمثابة «قبرص الشماليّة» بالنسبة إلى تركيا. ولكن واشنطن رفضت ذلك، ليس حبّاً في الكرد و «الكردستاني» وفرعه السوري «حزب الاتحاد الديموقراطي»، بل لأن أولويات أميركا الآن، تختلف عن أولويّات تركيا، وهي محاربة الإرهاب التكفيري الداعشي و «القاعدة»، وليس محاربة «الكردستاني» بخاصة أن واشنطن تستخدم الأخير، كورقة ضد «داعش» في سورية. وبالتالي، رغم التحالف بين واشنطن وأنقرة، هنالك اختلاف في الأولويّات، والأدوات المستخدمة في تحقيق أهداف هذه الأولويّات، بحيث تستخدم تركيا «داعش» و «النصرة» ضدّ «الكردستاني»، بينما تدعم واشنطن الأخير وتستخدمه ضد «داعش» و «النصرة» في سورية، في صراع خفي بين أميركا وتركيا. وليس هذا فحسب، مثلما قيل في بعض وسائل الإعلام إن تركيا تمرر معلومات إحداثيات استهداف طيران التحالف إلى «داعش»، فما الذي يضمن أن واشنطن لا تمرر إحداثيات أهداف الطيران التركي إلى مقاتلي «الكردستاني»، على مبدأ المعاملة بالمثل؟ لكن في نهاية المطاف، لن تضحي أميركا بمصالحها مع تركيا كرمى لعيني «الكردستاني»، كما يتوهّم بعض قيادات وإعلاميي هذا الحزب، بخاصّة منهم السوريون، بحيث صاروا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «حلفاء» أميركا، وليسوا أدوات آنية تستخدمها واشنطن، وستنتهي صلاحيتهم، بتحقيق الأهداف المرجوّة في سورية!. «العدالة والتنمية» بحملته العسكرية الأخيرة على «الكردستاني» يريد زجّ البلاد في دوامة عنف، فقط كي يكسب أصوات القوميين المتطرّفين الأتراك، ويحرم الناخب الكردي الموالي لـ «الكردستاني» من الإدلاء بصوته لـ «حزب الشعوب الديموقراطي» بأريحية، وبالتالي، يكسب حزب «أردوغان» بذلك المقاعد الكرديّة البالغ عددها 80 مقعداً في البرلمان التركي، إلى جانب كسب مقاعد من حزب «الحركة القوميّة» المتطرّف، ما يخوّله تشكيل الحكومة بمفرده! ولكن هذه اللعبة مكشوفة لدى المعارضة التركيّة. صحيح أن هذه المعارضة، لا ولن تتعاطف مع «الكردستاني» و «الشعوب الديموقراطي»، إلاّ أنها لن تقف إلى جانب «العدالة والتنمية» في حربها هذه على «الكردستاني»، وستبقى متفرّجة على تقاتل الخصوم. لأن المعارضة تدرك أن هذه الحرب ليست حرب تركيا على «الكردستاني»، بل إنها في المحصّلة حرب «العدالة والتنمية» على كل أحزاب المعارضة. ما يعني أن المعارضة التركيّة لن تمارس السلوك التقليدي السابق، بأن تتحد مع الحكومة في موقفها الرافض للقضيّة الكرديّة عموماً، و «الكردستاني» على وجه الخصوص. من جانب آخر، صحيح أن حلفاء تركيا في الغرب، وفي مقدّمهم واشنطن، يصرّحون بحق تركيا في مكافحة الإرهاب. إلاّ أن هؤلاء، ما عادوا ينظرون إلى «الكردستاني» بعين تركيّة. وبل أكثر من ذلك، شجّع الغرب أنقرة على العودة إلى طاولة المفاوضات مع «الكردستاني». فالأخير لا يشكّل تهديداً للمصالح الغربيّة، ولم يستهدف هذه المصالح، فلماذا يعاديه الغرب؟! وبل يمكن القول: تغيّرت نظرة الغرب نوعاً ما إلى هذا الحزب أخيراً، بحيث لم يعد ينظر إليه نظرة العدو، لكن الغرب لا ينظر إلى «الكردستاني» كحليف أيضاً. ما يعني، أن أميركا والغرب وإسرائيل لن يكونوا إلى جانب تركيا، كالسابق، في حربها على «الكردستاني». خلاصة القول: ما فشلت في تحقيقه الحكومة التركيّة السابقة، لن تنجح في تحقيقه حكومة داود أوغلو، وذلك بالقضاء على «الكردستاني». كما أن جرّ «العدالة والتنمية» البلاد إلى مستنقع العنف والدم، عبر اختلاق صراع مع «الكردستاني»، سيخدم مخطط وأهداف طهران ونظام الأسد في تركيا. ومن جانب آخر، سيخرج «الكردستاني» من هذه الحملة بنصر عسكري يعزز وزنه ودوره السياسي داخل تركيا، ما سيجبر أنقرة على العودة إلى المفاوضات مع «الكردستاني» وزعيمه أوجلان، وبشروط جديدة يرفع فيها الكرد سقف مطالبهم، وليس كما يتوهّم القادة الأتراك. ولكن إلى حين حدوث ذلك، تكون أرواح مئات من المواطنين، أكراداً وأتراكاً، قد زهقت على مذبح المنافع والأنانيّات الحزبيّة.

مشاركة :