أوضح أول خطاب ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن خلال جلسة مشتركة للكونغرس أن سياسة الإدارة الجديدة ستختلف عن سياسات الماضي القريب على مستويات عدة، لكن يبدو أن مقاربة بايدن المرتبطة بملف بالغ الأهمية تشكّل امتداداً مُحبِطاً لإدارة ترامب المهزومة، إذ سيستمر التحوّل من التجارة الحرة إلى مبدأ "شراء السلع الأميركية". بعبارة أخرى، سترتكز جميع الاستثمارات بموجب "خطة الوظائف الأميركية" على هذا المبدأ، وستُستعمل دولارات الضرائب الأميركية لشراء المنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة والقادرة على خلق فرص عمل للأميركيين. يُفترض أن يكون الوضع كذلك أصلاً. مبدأ "شراء السلع الأميركية" ليس مفهوماً جديداً، بل إنه تحوّل إلى قانون رسمي في مارس 1933 وكان آخر قانون أقرّته إدارة هيربرت هوفر. أدت تداعيات الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية إلى إضعاف مصداقية السياسة الحمائية التي طبّقها هوفر، ثم قادت الحكومة الأميركية العالم نحو حقبة من المنافسة الأكثر انفتاحاً على مر السنين والعقود اللاحقة، وفي المقابل، تراجعت المشتريات الحكومية للأسف، على سبيل المثال فرض قانون التعافي في عام 2009 على المشترين الفدراليين أن يفضلوا الموردين الأميركيين، إلا إذا أدى هذا الخيار إلى تضخيم كلفة المشروع كله بنسبة 25 في المئة وما فوق، وتسمح هذه القاعدة بتوسيع نطاق التلاعب بالأسعار وقد استفاد منها الموردون لأقصى حد، ووفق تقديرات "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي"، قد تزيد قواعد "شراء السلع الأميركية" القائمة اليوم الإنفاق الفدرالي بمعدل 100 مليار دولار سنوياً. لهذا السبب، حاول المدافعون عن التجارة داخل الحكومة الأميركية منذ عقود أن يفتحوا عمليات الشراء على المنافسة الدولية ويجبروا الحكومات الخارجية على الردّ بالمثل، وزادت صعوبة هذه العملية البطيئة والشاقة بسبب الألاعيب القذرة داخل الولايات المتحدة نفسها، لكن بعد عام 2010، شاركت الولايات المتحدة في مفاوضات لعقد اتفاقيات مع كتل تجارية كبرى ودول تشمل الاتحاد الأوروبي، واليابان، والمملكة المتحدة، وكوريا الجنوبية، بهدف إخضاع المشتريات الحكومية التي تصل قيمتها إلى 1.7 تريليون دولار لمبدأ المنافسة غير التمييزية. بموجب "اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية"، اكتسبت الشركات الكندية والأميركية أيضاً الحق في تقديم العروض للمشاركة في المشاريع الحكومية الخاصة بكل بلد منهما. لكن تباطأ هذا التقدم المتقطع والشائب فجأةً عند انتخاب الرئيس دونالد ترامب، فأصدر هذا الأخير أوامر تنفيذية متكررة في محاولة منه لتشديد قواعد "شراء السلع الأميركية" كجزءٍ من سياسته الرامية إلى إطلاق حرب تجارية ضد بقية دول العالم، وخلال فترة قصيرة، بدا وكأن سياسة ترامب التجارية الضارة قد تُضعِف الإيديولوجيا الحمائية الكامنة وراءها، لكن لم يحصل ذلك، ولم يتعهد بايدن بمتابعة هذه السياسة فحسب، بل إنه يريد توسيعها أيضاً. استفاض بايدن في الكلام عن التحديات التي تطرحها الصين في الخطاب الذي ألقاه عشية الأربعاء قبل الماضي، واعتبر تلك المخاطر حقيقية وعاجلة. لكن لم يسبق أن وقّعت الصين على أي اتفاقيات لزيادة انفتاح سوق مشترياتها، وهي تشمل اقتصاداً مختلفاً جداً عن الدول التي تبني اقتصاداتها على حُكم القانون وسبق ووقّعت اتفاقيات شراء مع منظمة التجارة العالمية، وسيكون إقصاء الصين من منافع تلك الاتفاقيات تصرفاً عادلاً، لكن يريد بايدن على ما يبدو أن يلغي 40 سنة من انفتاح السوق الذي كان يهدف إلى منح المصدرين الأميركيين في الخارج التوازن الذي يحتاجون إليه وتحسين قيمة أموال دافعي الضرائب الأميركيين محلياً. باختصار، ستكون سياسة "شراء السلع الأميركية" التي ينوي بايدن تطبيقها بمثابة تنازل عن القيادة الأميركية في مجال التجارة، إنها مقاربة مؤسفة وخاطئة، ولا يبدي أي مسؤول مُنتخَب حتى الآن استعداده للتصدي لهذه النزعة.
مشاركة :