ترتفع أصوات بين الفينة والأخرى منتقدةً شعرية الرواية أو استخدام لغة شعرية في كتابة الرواية على أساس أن السرد يجب ألا يتداخل مع الشعر ويجب ترك الرواية تنساب وتتدفق سردًا خالصًا بعيدًا عن اللغة الغرائبية وعن دهشة اللغة، لكن الاتجاهات الحداثية تجاوزت هذه المفاهيم التقليدية في سعيها إلى نفي الحدود الفاصلة بين الأشكال الإبداعية والتأكيد على أن النص هو كتلة أدبية واحدة، تتجاور فيها مستويات الخطاب، وتتفاعل فيها تقنيات التعبير وأساليبه المتعددة، وخاصة مع تهاوي الأطر التقليدية للقوالب الشعرية وتطوّر القصيدة في حركتها التجريبية المستمرة شكلًا ومضمونًا منذ عشرات السنين للوصول الى النص الشعري النقي. من القيود والحواجز التي تكتم أو تحد من التعبير الشفاف والحقيقي لتحاكي هدوء موج البحر وصمت الغيوم الزرقاء وايقاع السيمفونيات، للوصول بالنص إلى حالة عليا تصل إلى أرقى مستويات التعبير بإيقاع داخلي خاص. من هذا التجريب المستمر لتطوير وتثوير الشعر بزغت قصيدة النثر التي اقتربت كثيرًا من تخوم السرد ابتداءً من حركة مجلة «شعر» التي بدأت عام 1957. وعبر هذه الحركة التجريبية المستمرة انطلقت الراوية الحداثية لتقترب من الشعر أو اللغة الشعرية. بدأت هذه الحركة منذ فترة طويلة على يد الكاتبة السورية غادة السمّان وتطورت مع دخول شعراء كبار إلى عالم الرواية. فما عادت الرواية التقليدية لها المكانة السابقة مثل العهد الذهبي لروايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتطورها على يد نجيب محفوظ. أصبحت اللغة مفتاح التشويق والمتعة، لا يمكن تصور رواية حداثية بدون لغة حداثية غرائبية. شعراء دخلوا عالم الرواية ليهشموا الجدران الفولاذية بين الشعر والسرد وخلق عالم سردي ممتع بلغة شعرية. بدأت هذه الحركة الحداثية التغييرية في أمريكا اللاتينية على أيدي كتّاب يساريين كبار مثل البرازيلي جورج أمادو والكولمبي جبرائيل غارسيا ماركيز وخاصة في رواية الأخير «مائة عام من العزلة» التي كتبها عام 1967 والتي كانت ربما القنبلة المفجرة لتلك الجدران. الكاتب الفلسطيني ابراهيم نصر الله، هذا الشاعر الكبير دخل عالم الرواية بلغة شعرية آثرت الرواية وأعطتها نكهة أخرى ابتداءً من روايته الأولى «براري الحمى» وانتهاءً بروايته الأخيرة «زمن الخيول البيضاء» وهكذا فعل غيره من الشعراء عندما اقتحموا عالم الرواية بلغتهم الشعرية. ومن الأسماء التي أثرت الرواية العربية بلغتها الشعرية الكاتبة الفلسطينة سهام ابوعواد التي أصدرت روايتين حتى الآن هما «مقاش» و«أغويت أبي» لكن لغتها المدهشة المفرطة في الشعرية تجعلك لا تستطيع أن تفارق كتاباتها من دون أن تكملها. روايتان فقط حتى الآن ولكن الابداع ليس بالكم ولكن بالكيف والمستوى الراقي. وعلى المستوى المحلي، كان للكاتب المرحوم محمد الماجد دوره الريادي الواضح في كتابة القصة القصيرة بلغة شعرية راقية، ثم الكاتب أمين صالح الذي يكتب الشعر سرداً أو يكتب السرد شعرًا. التغيير يمثل صيرورة الحياة ومن يقف في وجه التغيير كأنه يقف أمام سونامي كاسح. لا يقف أمام التطور غير التقليديين الذين يخشون أن تنهار قلاعهم الأثرية. القصيدة الحداثية والقصة الحداثية والرواية الحداثية بلغت قمة تطورها ومازال هذا التطور مستمرًا بلا توقف. الهياكل لا يمكن أن تظل أبدية ولا يمكن الإصرار على بقائها لأنها سوف تنهار تحت مطارق الوقت وزحف الحداثة التي طالت كل شيء في هذا الزمن الرقمي السريع. الحداثية هي مخالفة للفكر السلفي في الأدب وفي الحياة. هذه مجرد أمثلة قليلة جدًا على الرواية الحداثية المكتوبة بلغة شعرية مدهشة ورأي سريع -بسبب ضيق المساحة المتاحة- فيما يجري في عالمنا الإبداعي المتغير. Alqaed2@gmail.com
مشاركة :