انتهى شهر رمضان، دورة كاملة مدتها شهر كامل أي 30 يومًا، بما يساوي 720 ساعة متكاملة، وبالمجان، من يتصور ذلك؟! ترى كم ندفع لحضور دورة تدريبية في قضايا السعادة الزوجية؟ كم ندفع لحضور دورة في تطوير الذات، وما يتعلق بالطاقة الإيجابية وما إلى ذلك من مصطلحات؟ الكثير منا مهووس بحضور مثل تلك الدورات ويدفع لحضورها مبالغ من غير أن يبالي كم هو الثمن، المهم بالنسبة له أن يحضر ويستفيد، وبعضنا الآخر يحضر لمجرد أن يأخذ الشهادة ليضعها في ملفه الشخصي ويكتب بعد ذلك في سيرته الذاتية، والبعض يحضر لأنه مجبر على الحضور، فيجلس طوال الوقت ليلعب في الهاتف الذي بين يديه ويتحدث مع زملائه ويخرج لشرب الماء أو لتناول الفطور، وفي نهاية اليوم، أخذها سياحة. وكذلك نحن من شهر رمضان، بعضنا استفاد سلوكيًا وجسديًا ومعنويًا، ويمكنه أن يغير حياته وفقًا لمخرجات التي خرج بها من شهر رمضان ويستمر كذلك ربما طوال حياته وهذه هي الإيجابية المستدامة، وبعضنا الآخر استفاد نوعًا ما بحيث وجد أنه يستطيع أن يغير بعض سلوكياته إن رغب، فالتدخين والكذب والغضب والكثير من العادات والسلوكيات الخاطئة وجد أنه يمكنه تغييرها إن رغب ذلك، فهو مازال يسأل نفسه هل أتغير أم أبقى على سلوكياتي الحالية؟ أما الفئة الثالثة فهي لم تشعر بالدورة التدريبية، فقضى جل وقته في النوم وبعد ذلك مشاهدة المسلسلات والأفلام والبرامج السمجة والسهر في المقاهي لتدخين الشيشة والجلوس مع الأصدقاء حتى أذان الفجر، ليعود بعد ذلك للنوم. قد يسأل سائل، أنا أريد أن أتغير ولكن لا أعرف كيف؟ يمكننا أن نقول إن في الدورة التدريبية الرمضانية يوجد أمران يجب أن نفهمهما قبل أن ندخل رمضان، هما: مميزات شهر رمضان، وما يمكن معرفته بالبرمجة الإيجابية، فما ذلك؟ مميزات شهر رمضان: 1- البرمجة النفسية: أكدت دراسات علم النفس أن التغيير يمكن أن يتحقق عندما نكرر ما نريد من 6 إلى 21 مرة في الشهر، مع تخيل النجاح والاسترخاء والاقتناع بالنجاح ثم الإقدام على الفعل، فما بالنا برمضان الذي يمتد 30 يومًا، فأي عمل تود تغييره يمكن أن تكرره 30 مرة في رمضان بلا انقطاع، فهل يتغير، جرب؟ 2- اتخاذ القرار: بنيّة ترك المفطِّرات منذ طلوع الفجر مهما كان الفرد متعلقًا بها، حتى مدفع الإفطار في المغرب، حتى وإن كان ما تشتهيه أمام ناظريك طوال الوقت، فالماء البارد، والأكل الساخن، والغريب في كل ذلك، يمكن للمرء تناول كل ذلك في الخفاء، إلا أنه لا يفعل. 3- الإنجاز والهدية والشهادة: دورة متكاملة مدتها 30 يومًا على صيام النهار وقيام الليل وصلاة التراويح وتلاوة القرآن والذكر والصدقة وصون اللسان عن الكلام غير المرغوب وكل تلك الآفات المجتمعية، وترك المعاصي والمحرمات، ليس ذلك فحسب وإنما ترتفع كل تلك الطاقات والهمم في العشر الأواخر، حتى إن مقل العين تدمع من سماع قراءة القرآن في صلاة القيام، ثم تتذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، متفق على صحته، يا لها من إنجاز وهدية وشهادة. 4- التجديد: وكَسْر الرَّتابة (الروتين)، فمواعيد النوم والأكل والخروج من البيت كلها تتغير، ومن المعروف إن التجديد من أهم وسائل الإبداع. 5- تنظيم الوقت: فكل الأمور في رمضان تتم وفق أوقات محددة، وليست على مزاج الفرد نفسه، وإنما بحسب رغَّبة الشرع، كالإمساك عند الفجر، والإفطار، وصلاة التراويح، ومواعيد إقامة الصلاة في المساجد، وصدقة الفطر. هذه بعض مزايا رمضان، لنأتي للنقطة الثانية، وهي البرمجة الإيجابية، فماذا تعني؟ البرمجة الإيجابية: يشير علماء النفس إلى أن برمجة الإنسان من السلب إلى الإيجاب تتطلب بالضرورة أن تكرر العمل الإيجابي أو السلوك الإيجابي عدة مرات حتى يصبح عادة إيجابية لديك، ومن هنا تستبدل السلوك السلبي بالإيجابي، وفي شهر رمضان نكرر الصوم ما يقرب من ثلاثين يومًا، وهي كافية لترسيخ السلوك الإيجابي والاعتياد عليه ليصبح عادة مكتسبة، ونتجنب خلال كل تلك الفترة السلوك السلبي -أيًا ما كان- ما أمكن ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك الكثير من العادات السلبية التي يمكن الإقلاع عنها باتخاذ القرار أولاً ثم الإصرار والعزيمة ولا مانع من التدرج في ذلك كالتدخين مثلاً والإفراط في شرب المنبهات وغيرها. لنتخيل الآن شهر رمضان، وما الأمور الإيجابية التي عشنا فيها لنبرمج حياتنا ولننتقل من السلبية إلى الإيجابية: 1- المحيط الإيجابي: عندما يكون المحيط والمجتمع كله منشغلاً بالتغيير والإيجابية فإنك حتمًا ستتأثر به، ففي شهر رمضان يمكننا أن نشاهد وأن نستشعر تفاعل الجميع مع الأجواء المحيطة برغبة ذاتية في التغيير، دون إجبار أو ضغوط خارجية، بل تجد الأفراد يمارسون الصلاة والصوم وبقية العبادات طواعية ومن غير إكراه، كل ذلك من أجل الطاعة والالتزام، فمن أمرهم بذلك؟ وكيف انصاع الجميع؟ وهذا يعني أن أجواء شهر رمضان تؤسس لنمط اجتماعي إيجابي، ينعكس على جميع أفراد المجتمع. 2- شهر النشاط والفاعلية والتفاعلية: فئة من البشر تعتقد أن شهر رمضان يأتي فيأتي معه الخمول والنوم والكسل، والسهر واللهو ولا إنتاج ولا دوام، ومشاهدة التلفزيون والبرامج السمجة التي تضحك على الذقون، إلا أنهم لا يعرفون أن هذا الشهر ما هو إلا شهر الإنجازات العظيمة والهمم العالية والنشاط والحيوية. فعلى مدار التاريخ كانت الكثير من الإنجازات لا تتم إلا في رمضان، والناس في حالة الصوم، ففي هذه الحالة يكون الإنسان في قمة الحالة الروحانية والقرب إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك يكون الإنجاز أعظم. وعلى ذلك ليكن شعارنا في رمضان دائمًا وبصفة مستدامة لنتغلب على الكسل، لنتغلب على الجوع وعلى العطش، لنقاوم التعب، لنبتعد عن السهر من غير حاجة. 3- التواصل مع الآخرين: على الرغم من أجواء الاحترازات الصحية وضرورة الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي أثناء التجمعات واللقاءات العائلية، إلا أنه يُمكننا التمتع بالأجواء الرمضانية المفعمة بالإيمان والمشاعر الإيجابية التي تزيّنها جمعات الأهل والأصدقاء، وذلك عن طريق التواصل المرئي مع الأهل والأحبة، وحتى يمكننا قراءة القرآن عبر الشاشات الافتراضية والتلاوة الجماعية للقرآن الكريم، واللقاء في المساجد وتحية الجيران والأحبة بعد الصلاة، كل هذه العوامل تساهم في الحفاظ على مستويات طاقة مرتفعة وتكوين روابط وعلاقات جديدة بين البشر والناس، فرمضان ذو طاقة إيجابية رائعة. 4- ممارسة الرياضة الخفيفة: رمضان وأجواؤه الإيجابية لا تمنع أبدًا من ممارسة الرياضة الخفيفة والبسيطة كرياضة المشي أو بعض التمارين المنزلية، إذ قد يعاني الجسم في الأيام القليلة الأولى من الشهر تراجعًا في مستوى الطاقة أثناء محاولته التأقلم مع الصيام، وهذا ما يستدعي الحاجة إلى ممارسة تمارين رياضية خفيفة خلال اليوم. ويمكن أن تفيد ممارسة تمارين التمدد أو تمارين التنفس البسيطة أو المشي لمسافة قصيرة لبضع دقائق في تجديد النشاط واستعادة الحيوية. 5- التطلع لبناء إنسان جديد: من يرغب في بناء نفسه وترك كل العادات السلبية التي يستشعر أنها سلبية يمكنه ذلك من خلال هذا التوجه الإيجابي لدورة شهر رمضان، فأنت إنسان حر، يمكنك التوجه للإيجابية بكل ما ترغب ويمكنك أن تركن وتبقى في السلبية، فلا يجبرك أحد على شيء، فالصيام وكل ما يجري في شهر رمضان علاقة خفية بينك وبين خالقك لا يعرف أحد ماذا تفعل في الخفاء، فيمكن أن تدعي أنك صائم ولكن عندما تدخل المطبخ ولا تجد أحدا فيه فيمكنك أن تشرب بضع جرعات من الماء.. من رآك ومن شاهد؟ لا أحد، وهنا نرتقي بالإنسان إلى مرتبة الإحسان «اعبد الله كأنك تراه»، فإن لم تبلغ مرتبة الحساسية والشفافية والشعور إلى هذه المرتبة فأعلم «فإن لم تكن تراه فإنه يراك». فعندما يبلغ الإنسان مرتبة الإحسان، فإن كل أعماله تتغير، فيصبح إنسانًا جديدًا، يتعامل مع كل المعطيات وكل العلاقات البشرية والأخلاقية بهذه الشفافية، عندئذ تتغير حياته طوال السنة وبطريقة مستدامة. ولقد وجدنا أن الكثير من الآيات القرآنية تشير إلى أن تغيير السلوك الإنساني يؤدي حتمًا إلى تغيير واقع الإنسان، فإن الله عز وجل قال في سورة الرعد – الآية 11 (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، هذا يعني أنه لا يأتي تغيير الواقع السيئ على مستوى الفرد أولاً، فالفرد هو من يقوم بتغيير نفسه أولاً من الجهل والتخلف والخمول، ويستكمل ذلك بقوله في سورة الأنفال – 53 (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، بمعنى أن الله عز وجل لا يصرف نعمة أنعم بها على أمة من الأمم إلا عندما يتخلون عن أسباب التقدم والتمكين. لنعيد النظر في نفوسنا، فأين نحن من تغيير سلوكياتنا وحياتنا في رمضان؟ Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :