حال انعدام مسؤولية تجاه مصير الفلسطينيين

  • 5/17/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مجازر أطفال وعائلات. قتل جماعي للمدنيين. أبراج سكن أو مكاتب تُدك بالصواريخ. بنية تحتية مدمرة. العقاب لأهل غزة وكأن لهم كلمة أو قرارا في إطلاق الصواريخ. لكن جو بايدن لا يرى «مبالغةً» في ردّ إسرائيل على صواريخ «حماس»، وليس لديه لـ«وقف العنف» سوى الاعتراف بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، فهو لا يريد التدخل إلا في أضيق الحدود، بلا خطة أو نية للعمل على حلّ الصراع. استناداً إلى ذلك أصرّ بنيامين نتنياهو وبيني غانتس يوماً بعد آخر على مزيد من التشدّد، فلديهما من جهة فتوى أميركية لـ«إدارة التوحّش» ترفدها شبه فتوى أوروبية تتصدرها ألمانيا والنمسا، ومن جهة أخرى فتاوى داخلية و«إقليمية» لإضعاف غزّة وفصائلها وإبقاء القطاع حقلاً للرماية والقتل وتجريب الأسلحة، كما لو أنه مسرحٌ دائمٌ لمنازلة إسرائيلية - إيرانية مفتوحة. مشاهد متكرّرة منذ 2007. مواقف دولية وعربية تتنافس بعقمها. ويبدو الطرفان، «حماس» وإسرائيل، متفاهمين موضوعياً في شأن وظيفتيهما: الحركة تمارس ما تعتقده «مقاومة الاحتلال» وتُضعف السلطة الفلسطينية لتحلّ محلّها وتُضعف القضية الفلسطينية لقاء الاعتراف بها بديلاً من أي جهة أخرى تمثّل الشعب الفلسطيني (تماماً كما يفعل «حزب الله» في لبنان، والحوثي في اليمن) ولا تعترف باتفاقات أوسلو لكنها تخوض الانتخابات بموجبها، ولا بمنظمة التحرير طالما أنها غير قادرة على التحكّم بتوجّهاتها. وتلتقي إسرائيل مع «حماس» على أهداف عدّة: تهميش السلطة ومنظمة التحرير لأنهما معترفٌ بهما دولياً، والتفلّت من اتفاقات أوسلو والتصرّف كأنها غير موجودة أصلاً وغير مسجّلة في الأمم المتحدة، و«قواعد اشتباك» مباشرة تتمتّع فيها إسرائيل بصفة الدولة ذات السيادة «المعتدى عليها» وتقدّم فيها «حماس» نفسها كـ«حركة مقاومة» مسيطرة على مساحة من أرض فلسطين. ولأنها بلا صفة قانونية دولية تمنح إسرائيل كل المبرّرات لضربها إلى ما يقرب من الإبادة للغزّيين مع الحفاظ على الفصائل كونها أدوات العمل لإسرائيل وإيران على السواء. كانت مواجهات القدس، في المسجد الأقصى ومحيطه، وفي حي الشيخ جرّاح، أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وسلّطت الأضواء الدولية على «مسؤولية إسرائيل»، فهي التي استفزّت وقمعت بالقوة المفرطة وداست الحرمات وحقّرت أبسط حقوق الانسان واستخدمت القضاء أداةً لـ«شرعنة» التمييز العنصري والمستوطنين كميليشيات رعاعية رديفة وبالغت في العنت والإجرام ضد انتفاضة شعبية سلمية لا تهدّد «أمن اسرائيل» واقعياً بل تدافع عن حقوق حيوية مشروعة. أقيمت السلطة الفلسطينية، بعد اتفاقات أوسلو، ورُبطت بالشرعية الدولية وميثاقها، ما يفترض تحصينها قانونيا، لكن إسرائيل بقيت خارجة عن أي قانون دولي ومحصّنة فقط بالانحياز الأمريكي، أيّاً تكن الإدارة وأيّاً تكن الجرائم والانتهاكات. طالبت الأصوات الخارجية «الطرفين» بـ«وقف العنف»، وكأن فلسطينيي القدس هم الذين يعتدون على مقدّساتهم ويرهبون سكان حيّ الشيخ جرّاح ويستخدمون الرصاص الحيّ أو المطاطي ويطردون المسعفين لمنعهم من معالجة المصابين. كلّ من رأى هذا العنف الإسرائيلي الأعمى، لفرض مشاريع «تهويد» القدس، وتوكيد استمرار مفاعيل «صفقة القرن» برغم غياب صاحبها الأميركي، كان لا بدّ أن يتوقّع انفجاراً ما تُسأل عنه إسرائيل أولاً قبل سواها. وما حصل كان انفجارين، فمن جهة فاض غضب عرب الداخل الإسرائيلي على نحو غير مسبوق حتى في تعاطفهم ومساندتهم لانتفاضة إخوتهم في العقدَين الماضيين، ومن جهة أخرى أشعلت صواريخ الفصائل جبهة غزّة. انتفاضة فلسطينيي الـ48 ليست تضامنية مع ما وراء «الخط الأخضر» فحسب، بل هي انعكاس للإحباط المزمن من تداعيات النكبة، والنقمة المتراكمة على سلطة لا تزال بعد 73 عاما تتمسّك بغريزة الاحتلال وترفضهم كـ«مواطنين»، بل تترسّخ في نمط الإخضاع والإذلال الذي لا يقيم أي احترام لهويتهم وخصوصيتهم وحقوقهم كأقلّية. الجيل الشبابي الجديد عبّر عن رفضه الوضع الشاذ المفروض على فلسطينيي الـ48 المتروكين بلا يقين أو ضمان لمستقبلهم، تحت رحمة نظام «ابارتايد» لا يعترف بهويّتهم وحقوقهم، وتحت نظام عسكري – أمني بواجهة «مدنية» لم يعد هناك سقف لتطرفها الديني والعنصري. الأشرطة المتداولة عن الاعتداءات على الأفراد والممتلكات الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم، في اللد وبيت يام وعكا وأم الفحم وحيفا ويافا والناصرة وطبريا والرملة، تُظهر مدى الاحتقان الاجتماعي الذي تتعامل معه سلطة الاحتلال بلا أي «مسؤولية». وفي أشرطة أخرى يتحدث شبّان وشابات إسرائيليون عن قتل «الآخرين» وتدميرهم وطردهم «إلى الدول العربية»... وفي ذلك دلالة إلى «ثقافة الدولة اليهودية» التي لا علاقة لها بأي «تعايش في القدس» أشارت إليه الإدارة الأمريكية من دون أن تتحمّل مسؤوليته، ولا بـ«احترام الهوية وتعدّد الثقافات» في المدينة كما يطالب البابا فرنسيس وكثيرون قبله. هذا هو الفشل التاريخي المدوّي لكذبة «الديمقراطية» الإسرائيلية. حال عامة من انعدام المسؤولية إسرائيلياً، أمريكياً، أوروبياً وإقليمياً، عطّلت السلطة الفلسطينية وجعلت التزاماتها الدولية قيوداً تكبّل دفاعها عن كرامة شعبها وحقوقه، مقابل إسرائيل التي لا تحترم أي التزامات. بل إن هذه الحال عطّلت أي دور للمجتمع الدولي في الدفع نحو «سلامٍ» ما أو نحو تفاوضٍ هادف، وتركت الولايات المتحدة الأمر لإسرائيل ودعمتها، لا لتهندس «السلام» بل لتواصل التطهير العرقي ولتكون «دولة يهودية» فقط، محاطة بمعازل فلسطينية تحت الاحتلال، «محكومة ذاتياً» بلا أي اعتراف دولي، تحديداً على نحو ما هو قائمٌ في قطاع غزّة. خلال شهور طويلة قدّم نتنياهو نفسه «زعيماً» مسالماً يدمج إسرائيل في المنطقة العربية، ارتكازاً إلى عداء مشترك لإيران. لكنه، بتجاوزه واقع «الاحتلال» واعتباره منتهياً، وبتجاهله واقع «النكبة» كأنه تقادم وتلاشى، كذلك بتهميشه كل بُعد فلسطيني لـ«التطبيع» مع العرب واستثماره «التطبيع» لسحق الشعب الفلسطيني وقضيته بكل ما فيها من مظالم ومقدسات ورموز وسرقة أراضٍ وهدم للبيوت وسطو علني على المنازل... بكل ذلك، كان والمجتمع الدولي الخامل يقمعان انتفاضة سلمية في القدس ليمنحا صواريخ غزّة منطقاً ودافعاً للانطلاق فتصبح المنازلة عسكرية يفوز فيها الأقوى، بل كان يثبت للعالم أن إسرائيل لم تكن ولن تكون في صدد أي سلام متخيل، لا بدولتين ولا بدولة واحدة، لا باتفاق مع السلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً ولا بـ«تهدئة» مع حماس غير المعترف بها. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»

مشاركة :