‫ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا

  • 5/19/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

جدل كبير ظل يحتدم خلال السنوات الماضية حول قضية التبرع بالأعضاء، ما بين مؤيد للفكرة ورافض لها، وهناك بين الفريقين من وقف مترددا، رغم أن هيئة كبار العلماء ومجلس الفقه الإسلامي أجازا التبرع قبل أكثر من 22 عاما، وفق ضوابط محددة. وعلى الرغم من ذلك ظل الأمر خارج دائرة التجاوب حتى أقر مجلس الوزراء أوائل شهر أبريل الماضي قانون التبرع الذي سبق أن أجازه مجلس الشورى في سبتمبر 2019، ليصبح القانون ساريا، ليفتح طاقة الأمل لأشخاص ظلوا يعانون من عدم القدرة على إيجاد متبرعين لهم لينقذوهم من آلام الفشل الكلوي وتليف الكبد واعتلال القلب وفقدان البصر، وغير ذلك من الأمراض التي تحتاج إلى عمليات نقل أعضاء بشرية. خلال الأسبوع الماضي اتخذ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان- حفظهما الله- خطوة تاريخية عندما قاما بالتسجيل في برنامج التبرع التابع للمركز السعودي للتبرع بالأعضاء، في بادرة إنسانية غير مستغربة ممن تغلغلت الرحمة في نفوسهم، وامتلأت دواخلهم خيرا وإحسانا، فضربا المثل الأعلى في كون القيادة الصالحة قدوة لأفراد المجتمع، ونبراسا تهتدي بهديه الرعية، ومنارا يستدل به الآخرون على طريق الصلاح والهدى. ولأن هذا الشعب الكريم النبيل اعتاد أن يقتفي أثر قادته ويحذو حذوهم، في تقليد إسلامي أصيل مستمد من هدي الكتاب والسنة، فلم تكد تمر ساعات قلائل على إعلان تسجيل خادم الحرمين الشريفين وولي العهد في برنامج التبرع بالأعضاء حتى تدافع المسؤولون والوزراء وعامة أفراد الشعب بعشرات الآلاف لتسجيل أسمائهم وإعلان موافقتهم على التبرع، للدرجة التي عجز معها برنامج «توكلنا» على استيعاب هذه الأعداد الهائلة، واحتاج الأمر إلى تدخل الجهات التقنية لإعادة تشغيل الموقع ومنحه القدرة على العمل. من واقع اطلاعي على القانون الذي أجازه مجلس الشورى أقول إنه أحكم سد جميع الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها ضعاف النفوس الذي تجرؤوا حتى على المتاجرة بأعضاء الإنسان، حيث منع التبرع بمقابل مادي، وتوسع في منع تلك التجاوزات الفاسدة، وأغلظ في العقوبة على المخالفين، وتشدد في جعل التبرع خالصا لوجه الله الكريم. كما اشترط ضرورة التأكد من أن النفع المتوقع من عملية التبرع أرجح من الضرر المترتب عليها. كما ينص القانون على ضرورة تشكيل لجنة مختصة تتولى إجراء مقابلات لمرات متعددة مع من يريدون التبرع بأعضائهم، والتأكد من إدراكهم للعواقب الصحية التي تترتب على عمليات التبرع، وأنه لا توجد أي ضغوط عليهم، سواء كانت مادية أو اجتماعية لحملهم على اتخاذ هذه الخطوة، والتأكد من سلامتهم العقلية والنفسية. إضافة إلى ذلك فإنه يتوجب أن يكون المتبرع والمستفيد من جنسية واحدة، أو أن يكون التبرع لمن هم في قائمة الانتظار، دون تحديد شخص بعينه، لمنع أي اتفاق مادي بين الطرفين، وإذا رأت اللجنة وجود شبهة في الإجراءات فإنها تقوم بالرفع بذلك فورا للجهات المعنية، ومن ثم يتم التعميم على كافة المستشفيات والمراكز الطبية في جميع أنحاء المملكة بمنع إجراء العملية، إضافة إلى فتح تحقيق رسمي في القضية وإيقاع العقوبات النظامية إذا ثبت وجود المخالفة. وأستطيع القول إن مجرد فتح باب التبرع بالأعضاء يغلق باب تلك الممارسات غير الأخلاقية، لأنه يوفر البديل القانوني. لذلك فإن الدولة مشكورة أقرت مكافأة لمن يتبرع بجزء من أعضائه بمبلغ 50 ألف ريال، مع التأكيد على أن هذا المبلغ ليس ثمنا للجزء الذي تبرع به، إنما هي مكافأة لتشجيع الغير على التبرع بأعضائهم بما لا يهدد حياتهم، مثل التبرع بإحدى الكليتين أو بجزء من الكبد. ويعود اهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بمسألة تشجيع التبرع بالأعضاء إلى عهد قريب، ويتجلى ذلك بوضوح في اهتمامه منذ وقت مبكر بتأسيس المركز السعودي لزراعة الأعضاء (المركز الوطني للكلى سابقًا)، بعد أن رأى بعينيه معاناة مرضى الفشل الكلوي، وتزايد أعدادهم، وأهمية توسيع دائرة التبرع بالأعضاء، وذلك من خلال إشرافه على مركز الكلى، ومن ثم كانت نظرته الأشمل بالاهتمام بجميع مرضى الفشل العضوي النهائي، فعمل على فتح باب الأمل أمام قوائم انتظار المرضى الذين تتوقف عملية شفائهم على زراعة عضو جديد. لذلك فإن الخطوة التي أقدم عليها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده- حفظهما الله- تعد لمحة إنسانية خالصة، وتمثل امتدادا للأعمال الخيرية التي عرفت بها المملكة منذ توحيدها، وتكشف حجم الاهتمام والعناية التي توفرها الدولة للمرضى، بعد أن أنشأت لهم المراكز المؤهلة للعلاج، وقدمت كافة سبل الدعم اللازم، ووفرت الأطباء المختصين، ومن هنا فإن هذا العمل الإنساني يدخل في باب السنة الحسنة التي يؤجر من قام بها ومن اتبعه فيها. كما أنه نوع من التكافل بين أفراد المجتمع، ودعوة إلى تفعيل باب التطوع وتشجيع المسلمين على الخير والعطاء، وهو ما يتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية في أجلى معانيها. هنا يكمن الفرق، وتتجلى القدوة الحسنة في أبهى صورها، بعد أن ترجمتها القيادة الرشيدة بيانا بالعمل وأفعالا على أرض الواقع، فمن بدأ بنفسه وسبق الآخرين في إعلان تبرعه بأعضائه يحق له أن يحث الآخرين على اقتفاء أثره والتأسي بجميل صنيعه، وستكون دعوته أوقع أثرا في قلوب الآخرين، وهو ما شهدناه بأعيننا ولمسناه خلال الأيام الماضية من تدافع كبير لأبناء هذا الشعب النبيل، امتثالا لأمر ربهم القائل في محكم تنزيله «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، ورغبة فيما عند الله من الثواب العظيم والأجر الكبير.

مشاركة :