نحن بحاجة جادة وملحة وصادقة لإعادة قراءة أوراق الوطن وترتيبها، فقد أضاعنا وأضاع البلد معنا، حقاً، سلوك بعثرة الأوراق أو خلطها أو إهمالها أو تمزيقها، وربما حرقها. ونتقصى اليوم أوراق جهات اجتماعية لعبت وتلعب دوراً حيوياً في دعم مسيرة البلد وتنميته ورفع مستوى الإحساس بالمسؤولية المجتمعية، وتعميق الإحساس بالمواطنة، بل وبالتطوير والتوعية الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، فضلاً عن التفاعل مع مجريات الوطن، وقيامها بدور متطور، باعتبارها- بحق- النموذج الأمثل لجماعات الضغط، على نحو منظّم وذكي وفعّال. هذه الجهات هي مؤسسات المجتمع المدني بكل أنواعها وبتعدّد مجالاتها، سواء كانت جمعيات النفع العام، التي تمثّل أكثر الروافد التي تتشكل من خلالها وتتبلور اتجاهات المجتمع المدني الكويتي، بل تمثّل الأداة الأكثر تعويضاً لغياب الأحزاب السياسية المنظمة في المجتمع، حيث كانت تمثّل، بصورة أو أخرى، أهم التيارات السياسية الفاعلة بالمجتمع، ومن خلالها كان يتم التنسيق العريض بين التيارات السياسية في تشكيل العديد من تحركاتها المختلفة، وإلى جوارها الأندية الرياضية التي تشكل ذراعاً مجتمعية مهمة لحراك مجتمعي نابض، وكذلك الاتحادات الطلابية والنقابات العمالية بجميع أنواعها وتشكيلاتها، والتي تعبّر عن مؤسسات مطلبية، إلّا أنها تنطلق من حسّ وطني وإسهام مجتمعي. ومن ذلك أيضاً بعض المسارح الثقافية والصحف والمجلات الفكرية التي كانت تقوم بدور مماثل. ولعلّ البحث في صفحات مؤسسات المجتمع المدني الكويتي تمدنا بتاريخ حافل تجاوز السبعين عاماً، لعبت خلاله مؤسسات المجتمع دوراً بارزاً في تعضيد الحراك المجتمعي وترشيد المكونات المجتمعية والسياسية، وقدّمت إسهامات ثرية، لن يوفيها حقها ودورها المميز كتب ودراسات عديدة، وقد قام البعض بمحاولات لتوثيقها، لكنّها لم تنل الدراسة ولا الاهتمام الكافي. ولعل الدور البارز الذي قادته هذه المؤسسات في خمسينيات القرن الماضي هو ما عجّل حلّها جميعاً من قبل أمير الكويت وقتذاك، الشيخ عبدالله السالم، وسرعان ما أعاد تنظيمها وإحياءها، واستمرت بدورها المميز منذ ستينيات القرن الماضي حتى اليوم. ويلاحظ أن دورها في السنوات الخمس عشرة الماضية قد قُلّص، لفرض رقابة حكومية صارمة عليها، وتم حلّ العديد منها، بدعوة مخالفتها لنظامها الأساسي، خصوصاً مع الدور المميز الذي بادرت لقيادته حينما تم تعليق الدستور وتعطيل مجلس الأمة عام 1976، ولعلّ أشهر من طالته يد السلطة بالحل نادي الاستقلال 1978، وهو الذي يمثّل التيار القومي المعروف لحركة القوميين العرب بقيادة الشخصية الوطنية المخضرمة د. أحمد الخطيب. ثم طالت مؤسسات أخرى بشكل متوالٍ، وقد تم اختراق هذه المؤسسات وتكبيلها والسيطرة على بعضها من قبل أطراف محسوبة على السلطة، وتم تقييد وتكبيل قدرة المتبقي منها من خلال تعديلات جائرة ومقيدة على قوانين جمعيات النفع العام والأندية الرياضية، وبقرارات وإجراءات تعسفية من الحكومة ووزارة الشؤون، فضلاً عن تراجع أدائها لدخول مجاميع سعت لاستخدامها لمنافع خاصة وأغراض شخصية، فبدأ معظمها يدور في فلك هذا المتنفذ أو ذاك الشيخ، ففقدت الكثير من رصيدها ومن ثمّ دورها المرتقب. وكانت جمعية الشفافية من أحدث جمعيات النفع العام التي تمّ حلها وتعيين مجلس إدارتها، ضمن محاولات تكبيل مؤسسات المجتمع المدني. وهو ما أضعف إسهامها وشكّل أيضاً إحدى محطات التراجع في الدولة، نتيجة لبعثرة أوراق هذه المؤسسات المجتمعية المهمة. واليوم نجد أنه لا يزال بعضها فاعلاً ومؤثراً، رغم كل العقبات وإجراءات التضييق، وهو ما نلمس معه نشاطاً موسمياً في محاولة لاستعادة دورها السابق، وأظن أنه تقع على عاتق السلطة أولاً وبشكل رئيسي، ثم على مكونات المجتمع كافة، ضرورة اليقين أن أحد ملامح إعادة الكويت لسابق عهدها وتطوّرها ونجاحاتها هو إطلاق حريات مؤسسات المجتمع المدني وترتيب أوراقها المبعثرة، والتي ستكون دائماً وأبداً الحسّ النابض للمجتمع، رغم علمي بأن بعض المتنفذين كان ولا يزال يحاول إجهاضها.
مشاركة :