جوته وحافظ.. الاستشراق الآخر

  • 5/20/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

وإنّي لأعرف حقّاً كيف أتقدّم إليكم، بالندِيِّ من الأزهار والشهِيِّ من الثّمار، وإن شئتم معها شيئاً من الحِكَم، فسأهدي إليكم منها النّاضج المعطار جوته «الدّيوان الشّرقي» بأسلوبه الباذخ البديع وأفقه الطّلق الرّحيب، العامر بأرقِّ المعاني وأبلغ الدّلالات، كان للأدب الفارسي في الفكر الغربيّ وآدابه حضور وقور.. لافت، ومكانة عظيمة شامخة تجاوزت إلى حدّ كبير حدوده الجغرافيّة الضيّقة. فمنذ أواسط القرن الثّامن عشر، كان اكتشاف الغرب للشّعر الفارسي قد أثار شغفاً مهيباً ومتزايداً بأعلام ذلك الشّعر، شغف سرعان ما تعاظم وعمّ مَدُّهُ الغامر أغلب البلدان الأوروبيّة. وفي غمرة ذلك الزّخم، ترجمت عن العربيّة والفارسيّة إلى اللّغات اللاّتينيّة، أعداد متزايدة من الأعمال الشّعريّة، فيما تنامى في الأوساط المثقّفة القريبة من الحركة الرّومانسيّة، وعلى نسق حثيث، الاهتمام بهذا الشرق السّاحر، اهتمام ظلّ في أذهان أجيال متتالية من النّخب، ولأمد بعيد، مجهولاً ومغيّباً. ما انفكّ الوله الغربي بالتّرجمة يزداد ويتضاعف في نهاية القرن الثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر، فترجم شِليغلْ إلى الألمانيّة مقاطع مهمّة من «شاهنامة» الفردوسي، فيما تفرّغ هردرْ لترجمة «غلستان» سعدي. وإن لامست تلك الحمّى فرنسا، التي راجت فيها أعمال سعدي، وإنجلترا، حيث غدت «رباعيّات الخيّام» موضوع أبحاث وترجمات عديدة، ففي ألمانيا على وجه التّحديد، تجلّت تلك الحركة في صورها الأكثر وضاءة وإشراقاً، هناك، ساهم فيض الأبحاث الخاصّة بالشّرق وغزارته شيئاً فشيئاً، في انبثاق ما يمكن أن نسمّيه بـ«نزعة فلسفيّة فارسيّة». بصمات وضّاءة ولم يكن ذلك التولّه بالتّرجمة ليتضاعف دون أن يخلّف بصماته الوضّاءة في الأدب الألماني للقرن السّابع عشر، وإن ظلّ ذلك التّأثير متواتراً إلى غاية اليوم. وكان ذلك التولّه قد تجذّر يومذاك خاصّة لدى الكُتّاب والمثقّفين الذين كانوا يبحثون عن مصادر إلهام جديدة أخرى، غير تلك التّي كانوا، ولقرون طويلة، يجدونها في الميثولوجيا وفي الإرث الأدبيّ الكلاسّيكيّ الإغريقيّ. وسيوفّر هذا الأدب الفارسيّ، وبصورة أعمّ الأدب العربي الإسلامي، بغرابته ونصاعته، بعضاً ممّا كان ينتظره هؤلاء الشّعراء والأدباء الألمان. هكذا سعى كُتّاب ألمان كثيرون من أمثال شليغل وهردرْ وهامّرْ.. ومن بعدهم روكارتْ، إلى استلهام الصّور الشّعريّة البليغة والفاتنة في الأدب الفارسي، التي ستكشف للغرب، ليس عن ذخر شعريّ فريد، وارف ومدهش فحسب، ولكن أيضاً عن نمط من التّفكير غير مألوف، ورؤية جديدة أخرى إلى الوجود. هكذا، كانت قصّة «جوزيف» التي كتبها غروماسشوسّن مستلهَمة إلى حدّ كبير من قصّة يوسف وزليخة في نسختها الفارسيّة، فيما استلهم جوته من ناحيته شعر حافظ الشّيرازي، ليغذّي أحد أعماله الإبداعيّة السّامقة الأخيرة.. «الدّيوان الغربي- الشّرقي». الطبعة الأولى سنة 1819 من «الديوان الغربي الشرقي» لجوته الطبعة الأولى سنة 1819 من «الديوان الغربي الشرقي» لجوته «لقاء» جوته وحافظ! سنحاول هنا القبض على مسارات ذلك التّأثير وتداعياته، أو بالأحرى على الهوس الفكريّ والرّوحيّ الذي تملّك أحد الوجوه السّاطعة للشّعر الألمانيّ، ألا وهو جوته، الذي غدا مولّهاً بالشّاعر الفارسيّ المرموق.. حافظ الشّيرازي. وقد غذّى ذلك الهوس على نحو بليغ، الإشراقات الشّعريّة لجوته، كما مشاعر المحبّة التي بات هذا الأخير يكنّها لحافظ. وعلى إثر ذلك «اللّقاء» الذي انعقد بين معلّم شيراز وجوته، ستكون لهذا الأخير هذه الكلمات: «لقد خطّ الشّيرازي بأحرف نورانيّة.. حقيقةً ساطعة غير قابلة للامّحاء.. أنّه كان حقّاً شاعراً متفرّداً ونسيجَاً وحده». اكتشاف متأخر وإذا كانت معظم الأعمال الألمانية لجوته معروفة من قبل جمهور القرّاء، فإنّ ديوانه تغافل عنه كثيرون وظلّ غير معروف، رغم أنّه احتلّ مكانة خاصّة ومتميّزة في أعماله. لم يكتشف جوته شعر حافظ إلاّ سنة 1814 وهو في سنّ الخامسة والستّين، حين اطّلع على ترجمة المستشرق النّمساوي جوزيف فانّ هامّر. على أنّ جوته لم يكن قارئاً مبتدئاً للأدب الفارسي، إذ كان قد اطّلع سنوات قبل ذلك على «غولستان» سعدي، وكذلك.. على نسخة «مجنون ليلى» كما صاغها نظامِي. على أنّ قراءته لحافظ هي التي ستثير فيه حماساً غامراً بهذا الشّاعر، وتوقظ فيه رغبة معرفة «قارّة» كانت لا تزال في ذاكرته أرضاً غُفلاً. لقد انبهر الرّجل خاصّة بالبعد الغنائيّ في شعر حافظ، وبالآفاق اللاّمتناهية لتأمّلاته، ووصف شعره بأنّه «معجزة من الذّوق والرقّة والرّهافة»، و«معين لا ينضب من الكمال والجلال، من الفلسفة ومن النّفحات الرّوحيّة البالغة المهابة والوقار». الشّعر الشّفيف.. العفيف لقد انكبّ جوته في بادئ الأمر على تحرير تفسير معمّق لقصائد غزل حافظ، محاولاً في الأثناء فهم الدّوافع العميقة الذي حكمت تأليف ذلك الكم الهائل من الشّعر الشّفيف.. العفيف، وبنفس الاندفاع أقدم على تعلّم اللّغة الفارسيّة والخطّ العربي. وفي عصر متقلّب ومضطرب، زَلزلت فيه الثّورات المتواترة في ألمانيا القيم التّقليديّة، شكّل ذلك الأدب الشّرقي ملاذاً لجوته، الذي كان في ما وراء تلك التوتّرات، ينشد الإمساك بالحقائق الجامعة الكليّة، وفي ما وراء الظّاهر الخادع، إدراك الأسرار المضمرة الخفيّة. وقد وجد في أشعار حافظ ضالّته، وأدرك أنّه في ما وراء المغانم الماديّة الزّائفة التي يتشبّث بها الإنسان في الغرب، ثمّة معين ثرّ ومنعش يمكن الارتشاف منه حتّى يدرك حالة الأمان والسّكينة الرّوحيّة. لقد كان لشعر معلّم شيراز حينئذ وقع عميق في نفسيّة جوته وإحساسه بالوجود من حوله، إذ فتح أمام ناظريه آفاقاً رحيبة من الحكمة البالغة، جعلته يدرك وضعيّته كـ«منفيّ» داخل وطنه. منمنمة لأشعار حافظ الشيرازي منمنمة لأشعار حافظ الشيرازي إجلال عارم وكتب جوته بعد ذلك «اللّقاء اللاّزمني».. ما يلي: «لقد ألفيت نفسي فجأة منغمراً في العطر السّماويّ للشّرق، تهدهدني نسيمات الأبديّة المنعشة التي كانت تسري من سهول بلاد فارس الخصيبة وسهوبها الرّحيبة.. وهناك تعرّفت على إنسان رائع اجتاح كياني بأجمعه بما أوتيه من سحر وجلال»، ليصرّح بضعة أشهر بعد ذلك: «قد أُصاب بالخَبَلِ ما لم أشرع فوراً في نظم الشّعر، لأنّي بتّ لا أقوى على مغالبة رغبتي في التّماهي مع هذه الشّخصيّة الفذّة التي انسربت بداخلي فجأة لتتملّكني وتضيء كلّ ذرّة من كياني». نحن حينئذ أمام مشاعر إجلال عارم وعميق، تشِي بموقف يكاد يكون متزلّفاً لحافظ، موقف لم تكن لتحكمه الاعتبارات الفكريّة أو المعرفيّة فحسب، إذ نلمس فيه نبض محبّة سريّة عامرة بذبذبات قلبيّة دافقة. لقد غدا حافظ مقيماً في وجدان جوته، ومعه نفذت إلى أعماق هذا الأخير روح الشّرق لتتّحد بكل عنصر من عناصره، وتتفاعل وإياه تفاعلاً قوياً.. جارفاً، حتّى إنّ هذا الأخير بات يناجي معلّم شيراز بأسماء كلّها توقير وتعظيم وإجلال مثل «القدّيس حافظ» أو «الشّقيق السّماويّ». لقد تأثّر جوته كثيراً بمفاهيم مثل «البديل الرّوحيّ» أو «المرشد الرّوحيّ» أو «الرّقيب» التي صاغها حافظ. وذهب إلى حدّ الإعلان عن نزال بينه وبين حافظ في حلبة الإبداع الشّعريّ، ولكنّ رغبته في مجاراة سلفه الفارسي.. بدت عقيمة وبلا جدوى. منهزماً أسلم جوته نفسه لأمواج العالم التخيّلي لحافظ، ليقرّ بذلك في إحدى قصائده: «أيْ حافظ! أيُّ جنون هو السّعي إلى مجاراتك! على لجج البحر المرتجف، تتابع سفينتي ترحّلها لاهثة، فتنتفخ أشرعتها، وتمضي بكبرياء وجسارة، لتحطّمها مياه المحيط، فإذا بي أسبح متشبّثاً بخشبة متآكلة. ففي تغاريدك المرحة يسري هواء منعش، يُزْبِدُ أمواجاً من لهب، وإذا بي أغرق. ولكن ينتابني إحساس بالإباء، إذ عشت أنا أيضاً لحين في بلد يتفيّض ضياء».. «الدّيوان الشّرقي». نضارة وبهاء في أسلوبه كما في محتوى تآليفه، سيترك جوته بعد «اكتشافه» لحافظ، مسافة ملحوظة في علاقته بالمدرسة الأدبيّة الكلاسّيكيّة، التي بات يرى في قواعدها الصّارمة عائقاً للإبداع الشّعريّ. وقد أكّد البعض أنّ التّأثير الذي مارسه حافظ وأدبه، جعل هذا الأخير يعود إلى أسلوب أكثر انفلاتاً وإشراقاً، وهو الأسلوب الذي اعتاده جوته في النّظم أيّام الشّباب، وبقدر ما تقدّمت به السنّ وتعمّقت رؤيته للحياة، ازداد نظمه نضارة وبهاء. ويكون جوته بذلك قد اعتبر أنّ أسلوب حافظ هو الأكثر وجاهة للإفصاح عن عمق تأمّلاته واتّقاد مشاعره أيّام الشّباب. لن نزعم هنا تفسير «الدّوافع» العميقة لجوته، تلك التي تلامس الجوانب الحميمة في حياته، ولكن بإمكاننا أن نستخلص من خلال كتاباته أنّ شعر حافظ كان بالنّسبة له حالة انفلات ودعوة إلى السّفر نحو مرابع رمزيّة وغنائيّة متّقدة، بعيداً عن تقلّبات الزّمن الذي كان يعيش: «دعوني وحدي على سرج جوادي، ولتمكُثوا في دياركم ومضارب خيامكم.. فأنا سأجوب من الأنحاء قاصيها على صهوة فرسي، جذِلاً، لا تعلو على قلنسوّتي غير نجوم السّماء».. «من الدّيوان الشّرقي».

مشاركة :