الثابت والمتحول في سياسة مصر تجاه إثيوبيا محمد أبوالفضل إعلان وزير الخارجية المصري عن عدم الضرر من الملء الثاني ينزع ورقة المتاجرة من أديس أبابا في خضم المأزق الذي تعيشه والشكوك المتزايدة في إتمام خطوة الملء في الموعد المحدد. الميل إلى التفاوض وفتح قنوات اتصال مع جهات متباينة ومتصادمة أحيانا صدمت التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية المصري سامح شكري لإحدى القنوات المحلية بشأن سد النهضة قطاعا من المواطنين والخبراء والمهتمين بتطورات العلاقة مع إثيوبيا، حيث أوحى كلامه حول عدم وقوع أضرار على بلاده مع الملء الثاني للسد مساء الثلاثاء، بالتراجع عن الموقف الصارم الذي انتهجته مصر مع أديس أبابا طوال الأسابيع الماضية. يطرح التغيّر المفاجئ في كلام شكري قضية الثابت والمتحول التي أخذت تظهر معالمها في توجهات السياسة الخارجية المصرية في جملة من القضايا الإقليمية مؤخرا، في مقدمتها أزمة سد النهضة التي ارتضت القاهرة التعامل معها من خلال المفاوضات ولم تتزحزح عنها في أوج التعنّت الإثيوبي والمماطلات التي صاحبت العديد من الجولات وجعلت عشر سنوات من المحادثات تمضي بلا فائدة حقيقية. ثم تعلن أن كل الخيارات مفتوحة للتعامل معها، لذلك فالهبوط والصعود، أو العكس، يكشفان عن خلل في التعاطي مع الأزمة أو حنكة في الصبر الاستراتيجي عليها، وفي الحالتين يمكن استشفاف ملامح الطريق المنتظر أن تسلكه القاهرة مع أديس أبابا. من الثوابت الرئيسية في السياسة المصرية الميل إلى التفاوض وفتح قنوات اتصال مع جهات متباينة ومتصادمة أحيانا وإيجاد خطوط للعودة، وتجنب اللجوء إلى الصدام المباشر، وتعظيم وظيفة الردع بالأدوات العسكرية عبر تراكم الأسلحة وأنواعها المختلفة، وقد حققت هذه المسألة حصيلة جيدة في الأزمة مع تركيا وتوابعها المتشعبة. أما نقاط التحول فتأتي من المستجدات التي تحيط بالحدث – الأزمة، والتي تستثمر للوصول إلى الهدف الذي تريده القاهرة، وقد استفادت من الاستدارة التي بدأتها تركيا في محيطها الإقليمي لدواعٍ تتعلق بحسابات أنقرة بما جعل مصر تتخلى عن ثوابتها التكتيكية، فالمصالح العليا كانت ولا تزال تحتّم تحاشي الصدام مع دولة مثل تركيا، وأن هناك مساحة للتفاهم وعدم الإضرار. وانتظرت القاهرة اللحظة المناسبة لإعادة تدوير العلاقة مع الخرطوم، ولاحت الفرصة عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، وجرى التأسيس لروابط شاملة تتغلب على إخفاقات الماضي وتحافظ لكل طرف على مصالحه القومية الكبرى، الأمر الذي أعاد تشبيك العلاقات بصورة مغايرة أكثر استقرارا. تسعى السياسة المصرية، بالمنهج نفسه، إلى ضبط عجلة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، بما يعيد الكرة إلى الملعب الذي تريده القاهرة، وهو ملعب الحل السياسي المرحلي النابع من المكونات المحورية للصراع التاريخي الذي يستمد روافده من ملابسات الحالة الواقعية الخاصة بالجذور، وعدم القفز عليها أو رسم خارطة مبتورة تحقق لإسرائيل كل ما تريده من دون أن تعطي للفلسطينيين الحد الأدنى الذي يسمح بتوافر قدر من الأمن والاستقرار في المنطقة. تعتقد دوائر مصرية أن كلام شكري حول عدم وقوع ضرر من وراء الملء الثاني لسد النهضة يمثل خصما من رصيده السياسي، حيث درج البعض على وصفه بأنه “أسد الخارجية” كدليل على صرامة تصريحاته وقوتها، لكن المعاني التي انطوت عليها جعلته أشبه بـ”الجريح” أو المضطر إلى اتخاذ خطوة للخلف لأسباب تعمد عدم توضيحها، ربما يكون ذلك تمهيد لإجراءات ما سيتم اتخاذها قريبا، أو انتظار لتطورات خطيرة داخل إثيوبيا. مع أن شكري ربط أي تصرف مصري حاسم في الجزء الثاني من تصريحاته بوقوع الضرر المباشر والانتقاص من حصة بلاده، غير أن المضمون العام يصب في اتجاه ترسيخ التموضع في مربع الليونة والابتعاد عن التسخين والخشونة والنأي عن التلويح بالعمل العسكري الذي ظهر في جملة من المواقف المصرية السابقة. لم يلجأ شكري إلى تبرير تصريحاته ومنع حدوث التباسات لدى الرأي العام الذي بات أكثر استعدادا للتعامل مع أزمة سد النهضة بالحسم العسكري، وترك عملية التفسير حسب اجتهادات ونوايا كل طرف، وبدأت أديس أبابا تعيد العزف على نغمة عدم وقوع الضرر جرّاء الملء الثاني بشهادة رسمية من وزير الخارجية المصري. تشير القراءة الموضوعية إلى العودة للمتحول في السياسة المصرية الذي قد يدفع شكري، وربما غيره من المسؤولين خلال الأيام المقبلة، إلى تخفيض مستوى الحدة في التعامل مع إثيوبيا، فلا أحد يشك في القدرات العسكرية المصرية والكفاءة التي أصبحت عليها. وتدرك الدول المعنية حجم الضرر الواقع على المنطقة برمتها إذا جرى اللجوء للخيار العسكري من جانب مصر، والتي تعلم أن تبعاته لن تكون سهلة عليها، ومهما كان المنطق الذي يدعم رؤيتها للحفاظ على حقوقها المائية ففكرة العمل العسكري لحل مشكلة حول المياه سوف تؤدي إلى أزمات أشد ضراوة تتعلق بالمياه وغيرها. يبدو أن مصر حققت هدفها من التلويح بالحل العسكري، ورسالتها وصلت إلى كل من يهمّهم الأمر في المنطقة والعالم، فهي تعلم أن استخدام الخشونة في توقيت تعاني فيه إثيوبيا من مشكلات داخلية معقدة يعني بداية لعصر طويل من الاضطرابات تفضي إلى انهيار الموزاييك الاجتماعي الهش الذي تتشكل منه، ويتم تحميل ذلك لمصر. تدرك القاهرة أن سد النهضة أكبر من مشروع تنموي لتوليد الكهرباء، ويتضمن أهدافا سياسية لدى الحكومات الإثيوبية المتعاقبة، وتتم الاستفادة منه في الحد من الأزمات القومية في البلاد، وإعلان وزير الخارجية المصري عن عدم الضرر من الملء الثاني ينزع ورقة المتاجرة من أديس أبابا في خضم المأزق الذي تعيشه بسبب تصاعد حدة الصدامات القبلية والشكوك المتزايدة في إتمام خطوة الملء في الموعد المحدد. كشفت الصور التي بثتها بعض الأقمار الاصطناعية مؤخرا أن الاستعدادات الفنية تسير بوتيرة بطيئة، بمعنى أن هناك صعوبة في أن تحقق إثيوبيا التخزين بالكمية التي تريدها، وهي 13.5 مليار متر مكعب خلال شهري يوليو وأغسطس، ما يعني عدم وجود ضرر لمصر. كما أن المشكلة ليست في هذه المرحلة من التخزين، فلدى مصر احتياطي في بحيرة السد العالي أكثر من 70 مليار متر مكعب يكفي للسحب منه لسد الفجوة، فالمشكلة تكمن في القيام بهذه الخطوة وفي غياب اتفاق مُلزم للمراحل المختلفة للتخزين والتشغيل وضمان الحصول على بيانات صحيحة للتعامل مع سنوات الجفاف المتوقعة. الحاصل أن مصر تستفيد من التحولات الإقليمية في تطوير سياستها الخارجية، حيث تزامن ما يوصف بالتراجع النسبي في أزمة سد النهضة مع تحركات يقوم بها المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، وتأكيد واشنطن على أهمية الحل السريع، ما يشي بأن هناك جهودا خلف الكواليس يتم التحضير لها، أو أن القاهرة تنتظر حدوث زلزال سياسي ما يمكن أن تسفر تطوراته عن حل يعكس فكرة عدم الإضرار. كاتب مصري
مشاركة :