ذهبت خلاصة الجزء الأول من هذا المقال إلى أنه "حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله"، والمصلحة متغيرة بتغير السياقات الزمانية والمكانية. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نُموضع علاقة (المصلحة/شرع الله) بالسياسة؟ العلاقة هنا ستكون بين متغيرين، لا بين ثابتين، كما لا بين اثنين:أحدهما ثابت والآخر متغير، وهذه نقطة مهمة جدا. نحن نعرف أن الأحكام الفقهية، خاصة في مجالي السياسة والاجتماع، إنما دُشنت لسياق سياسي اجتماعي ماض. سياق له ثوابته ومتغيراته، وله قيمه وتفضيلاته، وله حوائجه ومقتضياته، وله آماله وآلامه. وبالتالي، فإن تطبيق تلك الأحكام على سياق مختلف تماما، بل ومركب تركيبا معقدا، إنما يضر بالأمرين معا، السياسة والدين. للمفكر الإيراني الدكتور(عبدالكريم سروش) رؤية جديدة في هذا المجال، أعني مجال علاقة الدين بالسياسة. ولقد دشن رؤيته تلك كحصيلة لمناقشته لبعض آراء آية الله حسين منتظري. وبغض النظر عن اختلاف بعضنا مع رؤيته، واتفاق بعضنا الآخر معها، إلا أنها رؤية تستحق أن تقرأ، حتى لذات القراءة. ففي معرض نقده لبعض الآراء الفقهية لمنتظري، وخاصة ما يتصل بتأصيله للمقصد من حد الردة، بأنه يأتي من منطلق سياسي غرضه، كما قال:" تحجيم عمل بعض الفئات المناوئة لئلا تسري عقائدهم وأخلاقهم السيئة إلى مفاصل المجتمع الإسلامي". يطرح، أعني سروش، نتيجة مترتبة على مقدمة منتظري المنطلقة من الباعث الديني/ السياسي لقتل المرتد، فيقول:" إذا أردنا تعميم هذا الكلام، سنصل إلى مقولة (الإسلام دين سياسي)، أو كما يقول (السيد:مدرس): ديننا عين سياستنا، وسياستنا عين ديننا. وهذا الشعار من جملة الشعارات التي ترفعها إيران، حيث يستخدم هذا الشعار كأداة لضرب المخالفين، بحجة أنهم ينادون بفصل الدين عن السياسة". هذه النتيجة التي توصل إليها سروش من مقدمة منتظري تعود لتكون مقدمة لنتائج تترتب عليها ضرورة كما يرى، فيقول ما معناه إننا إذا قبلنا بمقولة أن الإسلام دين سياسي، أو أن بعض أحكامه سياسية، فلا بد والحالة كهذا من الالتزام بمقتضيات السياسة. ما هي مقتضيات السياسة التي لابد وأن تترتب، من وجهة نظر سروش، على النظر إلى بعض الأحكام الإسلامية على أنها أحكام سياسية؟ إذا عُدّيَ الحكم الديني، الفقهي تحديدا، إلى المجال السياسي، فإنه لا بد من أخذ لوازم الحكم السياسي، والتي من أهمها أن هذا الحكم مؤقت ومشروط بظروف وسياقات سياسية معينة. بمعنى أن الحكم أو القرار السياسي، على اختلاف أنواعه، كالعلاقات بين الدول، وكالعضوية في المنظمات الدولية، والتعاون بين الدول المختلفة، خاصة في عصرنا الحاضر: عصر الدولة القُطْرِيَّة، مشروط بشروط تتصف بأنها متغيرة، وتعتمد بشكل أساس على المصلحة. ومن هنا كانت السياسة لا صديق دائما فيها، ولا عدو دائما. وبصفة عامة، الأحكام السياسية لا بد وأن تكون مؤقتة، وتابعة للظروف والمصالح، وإلا كفت عن أن تكون سياسية. هل يجوز لنا، والحالة هكذا، أن نقول عن الأحكام الدينية التي دُشنت في سياق سياسي اجتماعي ماض، أنها قابلة للتطبيق في سياقات سياسية حاضرة تختلف جذرياً عن تلك السياقات التي دشنت فيها ولمصلحتها؟ إذا قلنا ذلك، فنحن ملزمون بقبول ما يترتب على هذا التطبيق من نتائج سياسية ضرورية، متمثلة في أنها متغيرة ومؤقتة. وأهم نتيجة يمكن الحصول عليها من هذه النتيجة، أننا نستطيع، إذا تغيرت الظروف السياسية، أن نعطل الحكم الشرعي الذي دُشِّن لظرف سياسي مختلف عن الظرف الحالي، أو نجتهد لاستنباط حكم آخر يتوافق والظرف السياسي الحالي. ذلك، لأن الحكم السياسي ليس حكما ذاتياً بالمعنى الأرسطي الذي لا يختلف ولا يتخلف أبدا، مهما كان الوسط الذي يعمل فيه، بقدر ما هو حكم عرضي مؤقت، فاليوم نقيم علاقة مع دولة معينة تبعا لنوع المصلحة التي تحكم ظروفنا الحالية، ولكن قد تتغير هذه المصالح، أو تتأثر سلبا بمؤثر مصلحي ما، فنتراجع عما أقدمنا عليه، أو نلغي تلك العلاقة. كما وتبعاً لنوعية تلك الظروف، فقد ننحت حكما أو قانونا داخليا معينا، أو نعيد تكييف حكم قائم، أو نجتهد فيه، أو نتراجع عنه أو عنها كلها، أو بعضها، أو نعدلها، تبعا لآنية الظرف أو مستقبله، أو لهما معا. هذه الطبيعة للأحكام السياسية، لا يميزها شيء قدر تميزها بظرفيتها. إن ميدان السياسة، كما يقول سروش، وكما هو الواقع فعلا، ميدان العرض والطلب، والربح والخسارة، والحوار والمناقشة، والمناورات السياسية، والتقدم والتراجع، فكيف يمكن تطبيق حكم أبدي على أمر سياسي يتصف بهذه الصفات؟ يطبق سروش هذه النتائج التي توصل إليها من محاولة (تكييف) العلاقة بين مسائل الاجتماع والسياسة من جهة، والأحكام الفقهية، والمسائل الدينية عموما من جهة أخرى، على مسألة قتل المرتد؛ حيث يقول: إننا قد نفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى هذه المسألة (مسألة قتل المرتد) من منظار المصلحة السياسية القائمة آنذاك، هذا على افتراض أن قتْل المرتد ثبت حدوثه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن من الفقهاء من يرى أن الزمن النبوي لم يشهد قتل مرتدين. بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر حكم المرتد انطلاقا من مصلحة سياسية رآها آنذاك. ولهذا، لا يصح، والكلام لسروش، أن نعتقد بأن مثل هذه الأحكام دائمة، بل فقط في صورة إحراز بقاء المصلحة، يمكن أن نقول بدوام هذا الحكم. من ناحية أخرى، فإن الثبوتية تكون ملازمة عادة للأصول، أما الفروع فهي مؤقتة بالسياقات التي تعمل فيها، بصفتها وسائل لتحقيق تلك الأصول/ الغايات على مر الزمن. الأصول عبارة عن معايير مثالية يتعلق بها الإنسان، ويتوق إلى تحقيق أكبر قدر منها في واقعه، بينما الفروع عبارة عن وسائل لتحقيق تلك الغايات. وبالتالي فلا يصح أن نُرَقِّيَ الفروع إلى مرتبة الأصول، إذ لا يبقى حينها معنى للأصول. من هذه الناحية، ناحية التفرقة بين الأصول والفروع، فإن الفقه فرع، أو جماع فروع، وليس أصلا. وبالتالي سيكون تابعا لمقتضيات العصر، وليس حاكما عليه. الفقه قانون سُنَّ لمصلحة المجتمع. والقوانين تسير خلف المجتمعات، وليست المجتمعات هي من تسير خلف القوانين. وهذه مسألة دقيقة فهمها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عندما قال:"الفقه علم دنيوي". وجاء ابن خلدون بعد الغزالي بحوالي ربع قرن ليقرر بأن مقولة أن الأنبياء إنما جاؤوا ليعلموا الناس الحياة الدنيوية وأمور السياسة غير صحيحة، لأن هناك مجتمعات لم يبعث فيها نبي، ولم تكن مجتمعات متدينة، ولكنها كانت ذات سياسة، وكانت موفقة في إدارة أمورها السياسية. والعلوم الدنيوية، وعلى رأسها مسائل السياسة والاجتماع لا يمكن أنها ثابتة، بل إن التغير والاستحالة من حال إلى حال هو دأبها الدائم، ومن هنا يمكن القول إن الفقه، وخاصة فقه المعاملات ليس مفردات ثابتة، بل هي مواد قانونية محكومة بقدرتها على المساهمة في تحصيل مصالح المجتمع، ودرء مفاسده..
مشاركة :