"الحكمة".. مفردة نسمعها كثيراً في حياتنا، مذ كنا صغارا وحتى شاب منا الفود، وشاخت الروح الكسلى في دواخلنا. لكنها بقدر ما هي كلمة مستأنسة ومعتادة، ونتعايش معها وكأنها جزء منا، نرددها، وندعي وعيها، بل ونتبجح بامتلاكنا لها، بقدر ما هي "حكمة" مستترة وراء حجبٍ عدة، تجعل بيننا وبينها برزخا لا مرئيا، ومسافة شاسعة، قطعها ليس بالأمر السهل أو اليسير. نتذكر فريد الدين العطار، في كتابه الأثير "منطق الطير"، ورحلة "السيمرغ" في البحث عن الحكمة بين الجبال وقممها ووعورة التجارب التي يعاني فيها الكثير، بغية الحصول على ذلك النور الذي لا يمكن إبصاره دون أن يبذل المرء من روحه الكثير. فالحكمة ليست منتجاً جاهزاً تجده على الأرفف يباع في الحوانيت، ولا كلمة تسمعها من شيخ هرم تعتقد أنها مفتاح كنز المعارف الكبرى، بل هي رحلة "السيمرغ" التي لا نهاية لها. لا نهائية البحث عن الحكمة، لا يعني عدم التحصل على شيء منها، وإنما الهمة العالية في جعل جوهرة الذات أكثر نقاء وشفافية وقدرة على الإشعاع الجواني الذي يفيض على العوالم الأخرى. وهو بذلك يصنع كينونته الخاصة المتمايزة والمغايرة عن باقي الكينونات، والمستقلة عنها تماما. فالحكمة في أحد أهم تجلياتها، هي موقف ذاتي فرداني، يمنح صاحبه رؤية نحو الكون والحياة وطرق العيش والتصرف تجاه الأفراد والثقافات والمتغيرات الكبرى. "إن الإنسان الذي لا يعثر على الطريق إلى مثاله الخاص، يحيا حياة أكثر تفاهة وأكثر صلافة من الإنسان الذي لا مثال له"، يقول نيتشه مبينا فداحة التيه في صحراء الجهل وضعف الإدراك وسوء قراءة الطريق، وهو الأمر الذي ينتج عن غياب الحكمة، وتكون عاقبته أن تكون شخصية مشوهة، لا ملامح لها، تكون أقل قدرا من تلك التي لم تحرك ساكنا واستسلمت منذ البداية للدعة والراحة. وسبب هذا، أن الشخصية التي ضلت الطريق وهي تسير باحثة عنه، تكونت لديها ملامح الغرور، معتقدة أنها نالت من الحكمة نصيبها الوافر، غير عارفة بمقدار بعدها عنها!. هي "الحكمة" كلمة تفضحنا دون استحياء، فهي لا تمنح ذاتها لمن لا يمتلكها، ولا يمكن أن يلبس رداءها الفاقد لاشتراطاتها، والتي أولها البصيرة والعلم، وثانيها التواضع وعدم الادعاء، وثالثها التجربة والمراس، ورابعها دهاء دون خبث أو احتيال، وخامسها فنُ التعامل مع الأغيار أو المتشابهين أو حتى الخصوم.. وقائمة تطول من المناقب التي علينا أن نتحصل عليها، قبل أن ننال شعاعا من نور الحكمة، أو نبلغ منزلة من منازلها العديدة. العلوم الواسعة في الحياة، على تنوع مجالاتها وحقولها، تفقد كثيرا من قيمتها دون أن تكون هنالك "حكمة" في استخدامها، أو وعي في كيفية التعامل معها. لأن أي علم مهما رفع كعبه وكان عالي الشأن، يفقد قيمته وأهميته إذا تصرف معه المرء دون حكمة، فالجوهرة تكون مجرد حجر صلد بارد وأعمى، حين تكون بيد الجاهل، وتصبح حبة الألماس أو اللؤلؤ في ذات المكانة مع حبة الرمل أو قطعة الصخر، حين تكون بيد من لا يميز بين هذه وتلك. العماء في التعامل مع الأشياء يشمل مجالات الحياة المختلفة، سواء السياسة أو الدين أو العلوم الاجتماعية أو التجريبية أو حتى مجالات الترفيه البسيطة. فدون بصيرة، تفقد الأشياء انتظامها الطبيعي. عندما لا تكون هنالك "حكمة" فإن الخراب يبدأ في تأثيث الخواء الواسع، وتتصاعد ألسنة النار والدخان.. نار جهل وغثاء ليس لشررها حدود!.
مشاركة :