مدينة تَعِزّ بـ"زاي مشددة" من أهم المدن اليمنية وأجملها، ومن أكثرها حضارة وتمدنا، وأزهاها عمرانا، وألطفها جوا، وأنقاها هواء، وأهلها أهل حضارة ومدنيّة مع رقيّ أخلاقي، وأدب جمّ وظُرْف ولطف، واشتغال بالعلم والتجارة وكثير من الصنائع عبر تاريخهم الطويل. تقع مدينة تعز إلى الجنوب من صنعاء بحوالى 245 كيلومترا، وهي ذات طبيعة جبلية خلابة، وعاصمة إدارية لمحافظة تسمى باسمها: محافظة تعزّ التي تُعدّ من أهم المحافظات الإدارية في اليمن، ومن أكثرها كثافة سكانية، ولها واجهة بحرية مهمة بما فيها ميناء المُخَا التاريخي، وباب المندب الاستراتيجي. وكانت تعزّ فيما مضى تسمى العُدَيْنَِة "تصغير عَدَنَة"، ولفظة تعز تطلق فقط على قلعتها الشهيرة التي تعرف اليوم باسم القاهرة، وهي قلعة تاريخية أسسها الأمير عبدالله بن محمد الصليحي، أخو الداعية الإسماعيلي علي بن محمد الصليحي الذي تولى حكم اليمن في منتصف القرن الخامس للهجرة، ثم غلب اسم القلعة "تعزًّا" على المدينة بكاملها، وظلّ اسم "العُدَيْنَة" يطلق على حارة من حاراتها الواقعة في طرفها الجنوبي أسفل جبل صَبِرْ المشهور، وهي التي يقع فيها جامع السلطان الملك المظفر الرسولي، أحد أبرز سلاطين بني رسول الذين اتخذوا تعزّا عاصمة لدولتهم في المدة ما بين 626-858هـ حتى سقوطها على يد بني طاهر. وكانت تعز قبل ذلك عاصمة للأيوبيين الذين قدموا إلى اليمن لاستنقاذه من التدمير الذي لحق به على أيدي بني مهدي التكفيريين الذين سيطروا على اليمن سهله وجبله، واستحلوا دماء رجاله، وسَبْي نسائهم، ومصادرة أموالهم، وتدمير كل مدينة وصلوا إليها بما فيها تعزّ التي لقيت دمارا لا يقل عن دمارها اليوم على أيدي الحوثيين والمخلوع صالح، فبعث السلطان صلاح الدين الأيوبي من مقره بمصر جيشا عرمرما إلى اليمن بقيادة أخيه تورانشاه سنة 569هـ، فتمكن من القضاء على دولة بني مهدي، وقتل زعيمهم عبدالنبي بن مهدي، وخلّص اليمن من شرورهم، واتخذ تعزّا عاصمة لدولة بني أيوب في اليمن التي امتد حكمها له من سنة 569هـ إلى سنة 624هـ لتقوم على إثرها دولة بني رسول سابقة الذكر. وقد تميّزت مدينة تعز في عهد بني رسول بالازدهار العلمي والأدبي وبناء والمساجد والقلاع الحصينة، والمآذن الشاهقة العملاقة، ومن أشهر مآثر بني رسول الباقية حتى اليوم في تعز: جامع المظفر سابق الذكر، وجامع الأشرفية، والمدرسة المعُتَّبِيَّة، وبقايا سورها الذي كان محدقا بها. وجميع هذه المآثر تحتوي على فن معماري رفيع، وأشكال هندسية بديعة لها روعتها وبهجتها. ثم توالت أيدي العمران والاتساع على مدينة تعز، وتضاعفت مساحتها حتى غطّت كثيرا من التلال والسهول وحتى القرى والضواحي المحيطة بها، والتي أصبحت جزءا منها بما في ذلك الأصدار الشمالية لجبل صَبِر الذي يشمخ في أعلاها من الجنوب بحيث ترى منازله ليلا وهي تتلألأ في سماء المدينة الحالمة وكأن السماء بأنجمها الزاهية تعانق الأرض. هذا الوجه الجميل لمدينة تعز علاه ما علاه من التدمير والتخريب على أيدي الحوثيين وصالح في معركة شرسة استمرت عدة أشهر دون أن تُحسم لصالح الغزاة أمام المقاومة الباسلة لأهل تعز المناصرين للشرعية والمؤيدين للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية. ولا شك أن استمرار هذا التقاتل لن يؤدي إلا إلى مزيد من الدمار والخراب للمدينة والتشريد والتجويع والقتل لأهلها الوادعين المسالمين، ولا نعرف لذلك أسبابا، خصوصا أن الغزاة يعلمون علم اليقين أنهم لن يكون لهم بـ"تعز" قرار على المدى الطويل، وأنهم سيخرجون منها عاجلا أم آجلا، وأن استمرار وجودهم فيها يعني مزيدا من المآسي لـ"تعزّ" وأهلها، ولهم أيضا، فهم مكون يمني نتمنى له كل خير إذا عاد إلى رشده وسلك سبيل الحق والصواب، وحتى من هم على مذهب الزيدية، ما علمت أن بينهم وبين أهل تعز إحَناً وثارات على مدى تاريخهم الطويل، بل على العكس نجد أن تعز في العهد الملكي هي التي انطلق منها الإمام أحمد لاسترداد ملك أبيه عام 1367هـ، والثأر من قتلة والده، وإفشال ثورة الإمام الدستوري عبدالله بن الوزير، وفيها وبمساعدة قبائلها استطاع الإمام أحمد أيضا التغلّب على ثورة المقدم أحمد الثلايا "الثلائي"، وخلع الإمام عبدالله بن يحيى حميد الدين الذي بايعه الثوار بالإمامة. فلماذا إذًا الإصرار على هذا الاحتراب فيها، وهم يعلمون أن معركتهم خاسرة، وأنها لن تفضي إلا إلى مزيد من القتل والدمار والتشويه المتعمد لوجه تعزّ الجميل؟ إن ما يحدث في تعز ليس قتل الأنفس البريئة وخراب البيوت، وإحراق الحرث والنسل وحسب، وإنما قتل الحضارة والمدنيّة والرقي والازدهار، وقتل الاعتدال والطموح والعقلية المتفتحة المتمثلة في إنسان تعزّ الحضاري وإرثه التاريخي.
مشاركة :