العلاقات الاجتماعية للمسنين 3-4: العلاقة بالأصدقاء

  • 5/28/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يعبر الشاعر الأمريكي (أوجدن ناش) Ogden Nash عن تناقص أعداد الأصدقاء مع تقدم العمر بقوله: «تبدأ الشيخوخة، وتنتهي مرحلة أواسط العمر يوم يكون عدد نسلك أكثر من عدد أصدقائك»! وتناقص عدد أصدقاء الكبير حقيقة، ولها أسباب؛ منها الموت الذي يغيبهم واحداً تلو آخر، ومنها أن الشيخوخة قد تقعد الكبير عن الحركة فبصبح غير قادر على الاتصال بأصدقائه وتلبية مناسباتهم، ومنها أن الشيخ يتغير مزاجه ونفسيته فلا يرتاح لكثير ممن كان يرتاح للجلوس إليهم. سيبقى لديه عدد من أصدقائه القدامى، وربما تعرَّف على جدد، لكن ليس كل الأصدقاء يلبون للكبير حاجاته العاطفية، ويقدرون على تسليته وإزالة وحشته وغربته النفسية والاجتماعية. وقد شرح هذه المسألة لبيد بن ربيعة حين قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب وزاد أبو العتاهية الأمر وضوحاً بأن العمر إذا امتد بك وأسلمك إلى زمن ليس فيه أقرانك فإنك ستصبح - لا محالة - غريباً: إذا ما مضى القَرْن الذي كنت فيهمُ وخُلّفت في قرْنٍ فأنت غريبُ ولعل في قصة الشاعر المخضرم عدي بن حاتم الطائي مع قومه ما يبين لنا مدى حاجة الرجل لقومه، فإنه لما أسَنَّ تجنبه قومه، وشعر بأنهم لا يرحبون بمجيئه. ولما كانت به رغبة لمجالستهم استأذنهم في وِطاء يجلس عليه في ناديهم، لأنه كبر ورق عظمه، فقالوا له: ننظر. وانتظر الموافقة على طلبه، ولما أبطؤوا عليه الجواب أنشأ يقول: أَجيبوا يا بني ثعل بن عمرو ولا تكموا الجواب من الحياءِ فإنِّي قد كبرت ورقَّ عظمي وقلَّ اللَّحم من بعد النَّقاء وأَصبحت الغداة أريد شيئا يقيني الأرض من برد الشتاء وطاء يا بني ثعل بن عمرو وليس لشيخكم غير الوطاء فإن ترضوا به فسرور راضٍ وإن تأبوا فإني ذو إباء سأترك ما أردتُ لما أَردتم ورَدُّكَ مَن عَصاك من العناء لأنِّي من مساءتكم بعيد كبعد الأرض من جو السماء وإني لا أكون بغير قومي فليس الدلو إلاَّ بالرشاء فأذنوا له أن يبسط في ناديهم، وطابت به أنفسهم، وقالوا: أنت شيخنا وسيدنا وابن سيدنا، وما فينا أحد يكره ذلك. وإذا كان أصحاب عدي وسعوا له في ناديهم ورحبوا به فإن مسعود بن بشر يشتكي من أنه لا يجد من يرحب به؛ لا من الندامى ولا من القينات، فقد جفته القينات، وقال له نداماه: لست أهلاً للنشوة: قعد الشيبُ بي عن اللذاتِ ورماني بجفوة القَيْناتِ فإذا رمتُ ستره بخضاب فضحتْه طلائعُ الناصلاتِ ما رأيتُ الشباب إلا سرابا غرّني لمعُه بأرض فلاةِ فإذا ما دعاك للكأسِ داعٍ قيل ما للكبير والنّشَواتِ وقد عبر أسامة بن منقذ عن أن الحياة لا طعم لها بعد الأصدقاء حين قال في رثاء صديق: وأصبَحَتْ وحْشةُ الغبراءِ دونهُمُ من بعدِ أُنْسٍ بهمْ والشملُ مُجْتَمِعُ وعشْتُ مُنْفَرِدًا منهمْ وأُقْسِمُ ما يكادُ مُنْفَرِدٌ بالعيش يَنتَفعُ كما اشتكى الشاعر الأندلسي (ابن اللبانة) من انصراف الأخدان، وعدَّ ذلك مما يزيد من مصيبة المشيب: زمن المشيب زمانة ولربما زادتك فيه خيانة الإخوان زادوا جفاء فانتقصت مودة ومن الزيادة موجب النقصان ومن السخرية بالمرء أن يحتاج أصدقاءَه، لعل أحداً يرثيه منهم، كما قال الشاعر القروي: ذهب الرفاق جميعهم من دوني لم يبقَ منهمْ شاعر يرثيني ما ذا أؤمِّل بعدُ من عيش وها قدمايَ غارقتان في التسعينِ ويبدأ شفيق جبري قصيدة (بعد الثمانين) بسؤال ابنتِه أمَّها عما حل بأبيها وجوابه: سألت جهينة أمها عما بي هاك الجواب إذا شفاك جوابي إن الثمانين التي استنفدتها أحيت مشيبي بعد موت شبابي ثم ينتقل في جزء آخر من القصيدة إلى تحسره على فوات الشباب وأصحابه: أين الصحاب زمان شرخ شبابنا ذهب الزمان وغاب فيه صحابي فكأنما الأيام في دورانها تلهو بنا في جيئة وذهاب ويشبه إبراهيم ناجي الحياة بعد غياب الأصدقاء بالمسرح الذي أنهى عرضه وأنزلت ستائره فلم الانتظار؟!.. يقول من قصيدة عنوانها (رواية الحياة): نزل الستار ففيم تنتظرُ خلت الحياة وأقفر العمرُ هو مسرح وانفض ملعبه لم يبق لا عين ولا أثر ويتذكر الشاعر الأردني محمد خيرو حيفاوي أصحابه الذين افتقدهم فلا يحس للربيع طعما، فقد أصبح يغرد وحده في أرض بلا بشر. إن الموت أهون من حياة بلا أصحاب، يقول: مالي أغرد في أرض بلا بشر أين الرفاق؟ وأين الناي والوتر الموت أهون من يوم أعيش به من دون صحبي فذاك اليوم مختصر ولئن أبدى الشاعر محمد بن عثيمين أسفه لمفارقة أيام الصبا وفقد الأصدقاء ما بين مسافر في أصقاع الدنيا وراحل للآخرة؛ فقد عوض ذلك بلزوم الكتب والمؤلفين. يقول من قصيدته التي عنونها ب (وداع التصابي): فقل ما تشا في مهجة قد تصدعت بلوعة موتور بما أنا واصف جعلت سميري حين عزَّ مسامري دفاتر أملتها القرون السوالف فطورا أناجي كل حبر موفق إذا ما دعا لبَّت دعاه المعارف وطورا كأني مع زهير وجرول وطورا يناجيني ملوك غطارف 2-النفور من الأصدقاء لا يوفق بعض الناس بأصدقاء مخلصين ينقذونه من الوحدة في فترة شيخوخته. وعلاوة على ذلك قد يتقرب منه من لا يرتاح إلى مجالستهم، ويتمنى الخلاص منهم، ومن هؤلاء (السري الرَّفَّاء) الذي لم تكن علاقته جيدة بمجايليه، فقد تهاجى مع كثير منهم؛ وبخاصة الشعراء ونجحوا في إقصائه من مجالس الأمراء والوزراء الذين قربوه برهة من الزمن، كسيف الدولة الحمداني والوزير المهلبي، حتى أفلس وقضى آخر عمره في بيت حقير كالكوخ، غريبا لا يزور ولا يزار: لحى الله العراق وساكنيه فما للحُرِّ بينهم قرارُ رأى الدهر اجتماع الشمل منَّا فشتته وللدهر الخيار وبدلني بأخدان المعالي أناسا فعلهم شين وعار أأقعد بالعراق أسير دهر غريبا لا أزور ولا أزار؟ وجرَّب أسامة بن منقذ الأصدقاء المحسنين والمسيئين، وسعد بصحبة الأوفياء، وشقي بمخالطة من آلموه بغدرهم وخيانتهم، وتحمل ذلك حين كانت له القدرة على التحمل، وفي آخر عمره كبر وتغرب. وفي الأبيات التالية ينهى قلبه عن تذكر الأصحاب الذين جرب غدرهم، لأنه لو كفَّر بُعدهم عن سيئاتهم، أو أنساه إياهم؛ فإن التوجع لن يعيدهم، كما لم يعد الشبابَ الذي لا أعز منه شيء: يا قلب دعهم فقد جربت غدرهمُ وفي التجارب بعد الغى ما يزعُ أكفَّرَ البعد عنهم ما جنوه أم الأ يام أنستك بعد البين ما صنعوا وهبهمُ أحسنوا، هل يرجعنَّهمُ إليك وجدك، أو يدنيهم الهلع ألست بالأمس فارقت الشباب ولا أعز منه فلِمْ لا رده الجزع إن وجود الأصدقاء إلى جوار المسن مصدر سعادة له، لكنه أحيانا مصدر قلق؛ وبخاصة إذا لم يكن في المجالسين من يتفق معه فكراً وسلوكاً، أو كان فيهم من لا يراعي مشاعره، ولا يتجنب ما يكرهه. فهذا الشاعر القروي دُعي إلى محفل، فظل يشعر بالغربة، وضايقه أكثر ما ضايقه المدخنون الذين ينفثون سمومهم بجواره غير عابئين به، فقال: أرى الناس حولي لا يعد عديدهم وأكثرهم في كل شيء معاكسي أودع صفوي حين أدعى لمجلس فوا فزعي من جو تلك المجالس أبش لجلاسي وأقضي حقوقهم ويعمي عيوني بالدخان مجالسي فلم أر كالتدخين في الضر عادة مقاربها يُؤذى بها كالممارس والمشكلة التي وقع فيها أحمد الصافي النجفي أن الشباب لا يرحبون به ظناً منهم أنه شيخ لا يتفق مزاجه مع مزاجهم، وما دروا أنه يملك روحاً فتية تفوق فتوتهم وتطلعهم للحياة. أما الذين يرغبون فيه وفي مجالسته فهم شيوخ لا يرتاح للقعود معهم، فهم لا يجلبون له سوى الكآبة: أرى الشبان يحزنهم لقائي وإن الشيخ يحزنني لقاه لقد حسبتني الشبان شيخا كبير السن قد ولى صباهُ ولم تعلم بأن القلب مني صبي بعد لم يكمل هواهُ وفي المعنى نفسه يقول: ولي روح الشباب وجسم شيخ ولست لأي ذين بذي رضوخ فلا جسمي مع الشبان يجري ولا روحي تقيم مع الشيوخ ** ** - سعد عبدالله الغريبي

مشاركة :